الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور الأسئلة والاستفتاءات
جواب سؤال عن نجاسة الدم
السؤال:
هل تذهب سماحتك إلى نجاسة الدم وما هي تفاصيل ذلك؟
الجواب:
إنّ المشهور بين مذاهب المسلمين عامة هو نجاسة الدم في الجملة، وإن اختلفت المذاهب الإسلامية وفقهاء المسلمين في حدود النجاسة، فذهب بعضهم إلى نجاسة الدم المسفوح دون غيره، وذهب آخرون إلى نجاسة مطلق الدم.
وقد استدلّ على نجاسة الدم في الجملة بنصوص من القرآن والسنة الشريفة.
أما الإستدلال بالقرآن الكريم فقد استدل بقوله تعالى: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] . بتقريب أن المراد من الرجس هو النجس بالمعنى الإصطلاحي الشرعي، وأن الضمير في «إنه» يعود إلى كل العناوين في هذه الآية الكريمة.
وتمامية الإستدلال بالآية الكريمة تتوقف على تمامية أمرين هما:-
1. إرادة «النجس» بالمعنى الإصطلاحي الشرعي من لفظ الرجس.
2. عدم اختصاص الضمير بلحم الخنزير وشموله لكل العناوين المذكورة بما فيها الدم.
أما الأمر الأول، فقد تقرّب استفادة النجاسة المصطلحة من لفظ الرجس بعد الفراغ عن أن معناه اللغوي هو القذر بتقريبين رئيسين:-
الأول:- إن للفظ الرجس حقيقة شرعية في النجاسة الإعتبارية الشرعية.
وهذا التقريب مردود لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية لهذا اللفظ وما شاكله من ألفاظ كالنجس والنجاسة والقذر. لان معنى النجاسة ليس مخترعاً للشارع وانما كان مسمى بنفس الإسم، واختلاف المعنى الشرعي مع المعنى اللغوي أو العرفي اختلاف مصداقي وليس مفهوميا، وحينئذ لا مجال لدعوى الحقيقة الشرعية وإنما يكون للفظ النجس والرجس وما شاكل حقيقة لغوية أو عرفية.
ولو سلمنا بأن الحقيقة الشرعية لهذه الألفاظ ثابتة لأن الإختلاف بين المعنى الشرعي واللغوي أو العرفي اختلاف مفهومي وليس مصداقياً لأن الشارع يستعمل هذا اللفظ لابراز معنى اعتباري له، فانّ ثبوت الحقيقة الشرعية لهذه الألفاظ في زمن نزول الآية الكريمة محل مناقشة ولا دليل على ثبوتها حينذاك.
الثاني:- استفادة النجاسة الإعتبارية من لفظ الرجس عن طريق القرينة العامةكما تستفاد من لفظ النجس عن الطريق ذاته، فالشارع موظف لبيان الأحكام، فيكون لكلامه ظهور سياقي في المعنى الشرعي أو المصداق الشرعي ولذا يلزم نصب قرينة إذا لم يكن ذلك هو المقصود لديه، وهذا الأمر يشكّل قرينة عامة استفاد منها الشارع وقام بترسيخها من خلال تشريعه النجاسات والطهور.
ونلاحظ على ذلك:-
إن إعمال القرينة العامة يتوقف على تشريع النجاسات في الجملة ولم يثبت ذلك في زمن نزول سورة الأنعام المتضمنة لهذه الآية الكريمة، وإنما غاية ما يمكن إثباته بالقرائن هو تشريع النجاسة في الجملة بعد الهجرة.
إن للقرآن الكريم أغراضاً متعددة، ولهذا فهناك مجال لمنع ظهور كلام الله تعالى في بيان الحكم الفرعي دائماً ولا أقل من الإجمال، وإعمال القرينة العامة لا يكون في مورد يحتف فيه الخطاب بما يوجب الاجمال كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التّوبَة: 28] إذ يمكن أن يقال بأنّ تعدد أغراض القرآن الكريم يجعل الآية مجملة في دلالتها على النجاسة المصطلحة. وفيما نحن فيه فان الآية الكريمة جائت في سياق تحريم الأكل، ومن الممكن جداً أن يكون وصف العناوين المحرمة المذكورة فيها بالرجس قد جاء متناسباً مع تحريم الأكل لايجاد الرادع النفسي عن أكل هذه الأشياء فلا يراد بالرجس النجاسة الإعتبارية بالمعنى الخاص.
وأما الأمر الثاني فالقاعدة النحوية تقضي بأن يكون أقرب شيء للضمير مرجعاً له، ولذا يقول النحاة بأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم تقم قرينة على كون المرجع غير الأقرب. وبناءً على ذلك يرجع الضمير إلى خصوص لحم الخنزير ولا يوجد ما يقتضي رجوعه إلى غير الأقرب.
فان قيل: إن رجوع الضمير إلى الأقرب يختص بحالات تكافؤ المرجع المردد في القوة، وأما إذا كان في البين تفاوت في القوة أي في درجة التعريف فيجب رجوع الضمير إلى الأقوى وفيما نحن فيه يتردد المرجع بين إسم يكون وهو ضمير الغائب وبين لحم الخنزير، وحيث أن الضمير هو أقوى المعارف فيجب أن يكون هو المرجع فيعم العناوين الثلاثة.
قلنا ان المناط هو ظهور الخطاب، وما ذكر إنما يعتمد عليه إذا كان في النص ظهور فيه، فرجوع الضمير إلى الأقوى من جهة إقتضاء الأقوائية ظهوراً في ذلك. وإلا فإرجاعه إلى الأقوى دائماً تحكم.
وفيما نحن فيه لا ظهور للنص في رجوع الضمير إلى الأقوى، ولا أقل من الإجمال الموجب للتوقف والاقتصار على القدر المتيقن وهو لحم الخنزير فلا يعم الدم.
أضف إلى ذلك أن اعتبار الضمير مطلقاً هو الأقوى الذي يتعين إرجاع الضمير اليه عند تردد المرجع قابل للنقاش، فقد لا ينطبق ذلك فيما إذا كان الضمير ضميراً مستتراً للغائب، وترددَ المرجع بينه وبين أقرب مذكور يكون لفظاً موجوداً بارزاً كما هو الحال في الآية الكريمة.
فان قيل:- لا وجه لتخصيص الوصف بلحم الخنزير، وانما الوصف صالح للانطباق على الميتة والدم كصلاحيته للانطباق على لحم الخنزير.
يقال:- إن الرجس إذ أريد به النجس بالمعنى الإصطلاحي الشرعي فربما أراد القرآن التنصيص على ذلك في خصوص لحم الخنزير لعدم نجاسة الدم مثلاً، وإذا أريد به معنى آخر خرجت الآية الكريمة عن الإستدلال على النجاسة حتى لو سلمنا صلاحية المعنى للانطباق على كل العناوين المذكورة.
وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها عدم صحة الاستدلال بالآية الكريمة على نجاسة الدم.
وأما السنة الشريفة، فلم يرد حسب تتبعي في كتب الحديث لدى السنة والإمامية والزيدية والإباضية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على نجاسة ما سوى دم الحيض والإستحاضة والنفاس. بل ورد ما يمكن أن يدل على الطهارة ففي مسند الإمام زيد رضي الله تعالى عنه روى زيد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تطهر للصلاة فأمس ابهامه أنفه فاذا دم فأعادها مرة فلم ير شيئاً فأهوى بها إلى الأرض فمسحه ولم يحدث وضوء ومضى إلى الصلاة.
وتقريب الإستدلال بها على الطهارة هو أن الدم لو كان نجساً فان يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون قد تنجست به، وتطهيرها لا يكون إلا بالغسل، فمسحُها لا يطهرها لأن مجرد زوال عين النجاسة غير كافٍ في التطهير، وظاهر الرواية أن الدم كان سائلاً مما اقتضى مسحه بالأرض، وإلا لو كان جامداً لأزاله من غير مسح بالأرض. اذن هذه الرواية فيها دلالة على عدم نجاسة الدم بالتقريب المتقدم. ولو فرضنا صحة القول بكفاية إزالة عين النجاسة ولو من غير غسل لم يدل المسح بالأرض على نجاسة الدم لاحتمال أن تكون الإزالة لجهة الاستقذار أو التنزه.
إنّ نجاسة الدم لو كانت ثابتة للزم صدور خطابات شرعية عديدة بل كثيرة لبيان هذا الحكم. خاصة مع عموم الإبتلاء بالدم، ولو صدرت مثل هذه البيانات لوصل الينا بعضها على الأقل مع أنه لا أثر لذلك في كتب الحديث على تنوع المدارس الفقهية، وهذا ما يوهن القول بنجاسة الدم. وأما ما صدر من خطابات شرعية في السنة الشريفة حول نجاسة دم الحيض والإستحاضة والنفاس فهو لا يدل إلا على نجاسة الدم في هذه الموارد، ولا يمكن تسرية الحكم منها إلى مطلق الدم لإحتمال خصوصية المورد وعدم وجود ما يساعد على إلغاء هذه الخصوصية عرفاً بنحو يتشكل للخطاب ظهور عرفي في كون النجس هو طبيعي الدم.
ومما يساعد على القول بعدم نجاسة الدم هو عدم وجود ارتكاز متشرعي عام لدى المسلمين في عصر الصحابة والتابعين على نجاسة الدم. ويظهر ذلك من ملاحظة ما روي عنهم، فلو كانت نجاسة الدم ثابتة ومأخوذة من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لصارت معلومة ومرتكزة لدى جيل الصحابة والتابعين مع أنه لا يوجد مثل هذا الارتكاز حسب ما يلاحظ في ما ذهب اليه الصحابة والتابعون في هذا المقام. ففي مصنف ابن ابي شيبة عن هشيم عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه أدخل أصابعه في أنفه فخرج دم فمسحه فصلى ولم يتوضأ. وبسنده عن أبي قلابة أنه لا يرى بأساً بالدم إذا خرج من أنف الرجل إن استطاع أن يفتله بأصبعه إلا أن يسيل أو يتقطر. والبأس هنا في إيجابه الوضوء وليس بلحاظ النجاسة. وروي ذات الشيء عن مكحول. وروى ابن أبي شيبة بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عصر بثرة في وجهه فخرج شيء من دم فحكه بين اصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ. وبسنده عن جابر أنه أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليها دم فمسحه بالأرض أو التراب ثم صلى.
وعن مجاهد أنه كان به قرحة تمصل فكان لا يتوضأ ويصيب ثوبه فلا يغسله. وعن طاووس أنه يصلي وكان ثوبه نطع من قروح كانت بساقيه. وربما يكون تفسير ذلك بعدم النجاسة أقرب من تفسيره بالعفو عن دم القروح فعدم النجاسة هو التفسير الأكثر عملية من موضوع العفو عن النجس مع كونه نجساً الذي قد يصبح قضية حيثية بحتة في ظل إمكان ملاقاة الثوب للأشياء وسراية النجاسة ولا سيما مع عرق البدن وغير ذلك من أسباب سراية النجاسة.
وروى ابن أبي شيبة بسنده عن سعيد بن جبير أنه كان بعض أمهات المؤمنين لتقرص الدم عن ثوبها بريقها، ومثل هذا مروي عن الحسن بن علي وابن عمر وعن ميمون بن مهران. وهذا كما يمكن أن يحمل على كفاية إزالة النجاسة كذلك يمكن أن يحمل على عدم معاملة الدم كعين نجاسة وأن إزالته قد تكون لجهة الاستقذار أو التنزه وهو التفسير الأقرب لأن النجاسة تزال بالغسل.
إن كل هذه الآثار عن الصحابة والتابعين تنفي وجود ارتكاز عام مسلّم به على نجاسة الدم، ووجود آثار أخرى عن بعضهم ظاهرة في بنائهم على نجاسة الدم لا تثبت الارتكاز العام وانما تثبت ذهاب هذا البعض إلى النجاسة ويمكن أن يكون اجتهاداً منه وإلا لو كان هناك ارتكاز عام لألتزم الكل بنجاسة الدم ورتّب آثار النجاسة فعدم ذلك يوهن دعوى وجود ارتكاز عام مسلم، ويجعل المسألة خلافية ربما يدخل الخلاف فيها في باب الإجتهاد.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد