الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور الأسئلة والاستفتاءات
ماهية الغناء وحكمه
السؤال:
ما هو تعريفكم للغناء؟ وهل تذهبون إلى تحريمه؟ نرجو الإجابة بالتفصيل.
الجواب:
لا يخفى أنه ليس للغناء حقيقة شرعية ولا متشرعية، كما أنه ليس له حقيقة لغوية مغايرة للحقيقة العرفية، وإنما له حقيقة عرفية وإصطلاح لدى أهل الفن يرجع إليه العرف عند الإشتباه، وما ورد في المعاجم اللغوية إما أن يكون من باب التعريف اللفظي الذي لا يلتزم فيه بالحد التام أو من باب بيان الأفراد الشايعة، على أن بعض المعاجم وفقت في بيان المعنى المطابق لما عليه العرف العام والخاص.
ولنبدأ بذكر التعريف الفني للغناء ثمّ نذكر خصائصه ونعقب ذلك ببيان الإختلاف الواقع في حكاية المعنى.
الغناء عبارة عن كيفية صوتية يؤدى بها الكلام موزوناً أو غير موزون يأتي فيها الصوت على طبق ألحان ونسب موسيقية تعمل على تزيين الصوت بنحو يقتضي الطرب في المتكلم والسامع.
وعلى هذا فالغناء يستبطن الخصائص التالية:
أولاً: - أنه صوت وليس كلاماً. وقد اتفقت على ذلك المعاجم اللغوية المعتبرة وتعاريف أهل الفن، وتطابق ذلك كله مع الفهم العرفي العام لماهية الغناء.
ففي لسان العرب: الغناء من الصوت، وفي تاج العروس الغناء ككساء من الصوت، وفي نهاية ابن الأثير: وكل من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء، وفي معجم مقاييس اللغة: الغناء من الصوت، وفي المصباح المنير: والغناء مثال كتاب الصوت وقياسه الضم لأنه صوت، وفي معجم متن اللغة لأحمد رضا: الغناء من السماع التطريب بالصوت، رفع الصوت وموالاته.
ثانياً: أنه كيفية صوتية يؤدى بها الكلام موزوناً أو غير موزون، فإذا لم يقترن بالكلام لا يكون غناء. ففي الموسوعة العربية الميسرة: الغناء صناعة في أداء الألحان المقرونة بالأقاويل الدالة على المعاني. وفي المعجم الوسيط: الغناء التطريب والترنم بالكلام الموزون وغيره يكون مصحوباً بالموسيقى وغير مصحوب.
ثالثاً: أن يأتي الصوت على حسب ألحان ونسب موسيقية تعمل على تزيين الصوت وتحسينه، فليس كل كلام يأتي على نسبة موسيقية غناء فرفع الصوت بمجرده عند النداء مثلاً لا يعتبر غناء، وإنما اللازم أن يأتي الصوت على حسب النسب الموسيقية التي يتزين الصوت إذا أتى على طبقها، فهي تعمل في تزيينه وتحسينه. وهذه الخصيصة متفق عليها وإن لم تذكر بشكل صريح في عدد من المعاجم وإنما أشير إليها من خلال بيان التطريب بالصوت، أو ترجيعه ومدّه، أو رفعه وموالاته وكل ذلك بيان لهذه الخصيصة.
رابعاً: أن يكون الصوت مقتضياً للطرب وهو خفة في النفس من سرور أو حزن، ولا يراد بالطرب خصوص ما أفاده العلّامة الرضا الأصفهاني في رسالته في الغناء إذ ذكر أن الطرب خفة تعتري الإنسان فتكاد تذهب بالعقل وتفعل فعل المسكرات في متعارف الناس، فيخرج الطرب الخفيف إذ لا اعتبار به كما أنه لا اعتبار بالفرح والنشاط الحاصلين من بعض المشروبات المفرحة ما لم يبلغ مرحلة يزيل العقل عن المتعارف. فانّ ما أفاده مما لا شاهد عليه من اللغة والفن والعرف والاعتبار، إذ الطرب بهذه المرتبة ليس مقوماً لماهية الغناء قطعاً بشهادة العرف الخاص والعام. وإنما المقوم لماهية الغناء أصل الطرب ولو بمرتبته الضعيفة.
والواقع أن دخل الطرب في مفهوم الغناء مما لا ينبغي الكلام فيه فانه من المسلمات عند أرباب الفن وعند العرف إذ الغناء انما يؤتى به لأجل الطرب، وإنما تأتي هذه الكيفية الصوتية على نسق موسيقي من النسب والأنغام لأجل أن يستبطن الصوت حسناً مؤثراً ومحركاً للنفس، وإنما الذي ينبغي أن يقال في المقام هو أن الطرب الفعلي ليس دخيلاً في ماهية الغناء أصلاً، خاصة وأن الأذواق متفاوتة والأمم مختلفة في ميولها نحو الألحان والنسب الموسيقية كما أن حالات النفس مختلفة، وعلى هذه فرب غناء لا يطرب عند قوم، أو لا يوجد الطرب في نفس إنسان معين، أو لا يوجد الطرب في حالة معينة، إلّا أنّ ذلك كله لا يخرجه عن عنوان الغناء، وما ذاك الّا لأجل أنّ اقتضاء الطرب في الجملة هو المقوم لماهية الغناء، دون دخالة الطرب الفعلي في الماهية.
وهكذا يتضح أن الصوت إذا اتصف بتلك الخصائص المتقدمة كان غناءً سواءً أريد به اللهو أم لا، وسواء أكان محتواه نزيهاً أو لا، وسواءً أكان محتواه دينياً أو غير ديني.
وهكذا يتضح أن دعوى اختصاص الغناء بالصوت الذي يؤتى به على سبيل اللهو توهم باطل. وكذلك تخصيص المفهوم باللحن ذي المحتوى اللهوي. ومثله أيضاً في البطلان تخصيص المفهوم باللحن المناسب لمجالس أهل الفسوق، فان كل هذه التخصيصات ليس لها أي وجه فني على ما عرفت.
ودعوى أن التعريف الذي ذكرناه للغناء بما أنه ينطبق على مثل المدائح والمراثي مع أنه لا يسمى القاريء لهما مغنياً فيكشف ذلك عن عدم صحة التعريف، تندفع بأن لفظ المغني حصل له شبه الإصطلاح في مطربي مجالس اللهو، وإلّا فالمغني بمعنى إسم الفاعل ينطبق على كل من صدر منه الغناء، ودعوى أن هذا الإصطلاح للفظ المغني كاشف عن ضيق في مفهوم الغناء تندفع بأنه لا ملازمة بين الأمرين فان الألفاظ التي تطلق على أصحاب الحرف مثلاً لا تطلق على غيرهم إذا تلبس بالفعل دون أن يتخذه حرفة له كيف وأهل الفن الذين يرجع إليهم العرف العام في تحديد المصداق المشتبه لا يترددون في إطلاق الغناء على المدائح والمراثي وإن لم يطلق على قاريها اصطلاح المغني، على أن هذا الإيراد لا يختص بالتعريف الذي ذكرناه للغناء وعرفناه به بل يتمشى مع التعاريف الأخرى كتعريفه بانه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب فانه ينطبق على مثل المدائح والمراثي أيضاً مع أن هذا الايراد مردود حتى على هذا التعريف.
وبما أن التعريف الذي ذكرناه للغناء ينطبق أو هو قابل للانطباق على الأصوات التي ليس فيها ترجيع، فقد يرفض بدعوى مخالفته لتعاريف أهل اللغة التي أخذت عنوان الترجيع في مفهوم الغناء، وأنها المتبعة في صورة الإختلاف.
ونلاحظ على ذلك:
أولاً: - إنه لو فرض إختلاف التعريف اللغوي عن التعريف المزبور، فانه لا يقدّم التعريف اللغوي لتقدم الحقيقة العرفية العامة، خاصة وأنها مطابقة لما عليه أهل الفن، وقد تقدم أن العرف يرجع إليهم عند الإشتباه في بعض المصاديق.
ثانياً: - إن أغلب تعاريف اللغويين للغناء لم تكن مسوقة لبيان الحد التام، وإنما كانت في مقام التعريف اللفظي، أو بيان المصاديق العامة والمتعارفة للغناء، والّا فان الغناء في ذلك الزمان كان مفهومه أوسع مما ذكرته المعاجم في العرف العام وفي العرف الخاص. فقد كان الهزج أحد أقسام الغناء في ذلك الزمان وهو على ما عرّف غناء خفيف كله، وفي مصاديقه ما لا يشتمل على الترجيع وإن كان يأتي على نسب موسيقية خاصة. كما أنّ قراءة القرآن الكريم مع تزيين الصوت وتحسينه وإن لم يكن فيها ترجيع أطلق عليها الغناء والتغني حتى في كلمات أهل اللغة وكان هذا الإطلاق حقيقياً الأمر الذي يشير إلى أنّ أخذ الترجيع في تعريف الغناء في كلمات أهل اللغة لم يكن من جهة تقوم الغناء به.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ما ذكرناه بشأن الترجيع يمكن ذكره بعينه بشأن المد لو لم يشتمل الصوت عليه. وأما ما ذكره ابن الأثير في نهايته من أن كل من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء، فقد لا يكون في مقام جعل الضابطة التي تنفي عنوان الغناء عن الصوت الملحن الخالي من الترجيع والمد، وإنما هو ناظر إلى أن الصوت إذا اشتمل على الترجيع والمد فهو غناء مهما كان محتواه.
ونحن نذهب إلى عدم حرمة الغناء في نفسه، فليست حرمة الغناء ذاتية، وإنما يحرم إذا لابسه محرم، ولا نحمل نصوص التحريم على الحرمة الذاتية للغناء فهناك مجموعة من النكات لا بد من الإلتفات إليها بدقة عند محاولة فهم النصوص الواردة بشأن الغناء ودراستها لأثرها الكبير في ما يمكن استفادته من تلك النصوص وفي فهمها فهماً صحيحاً معتدلاً.
وهي -:
أولاً: - إنّ طريقة الشارع الأقدس ومنهجه في التعامل مع القضايا الجبلية والغريزية في البشر لا تقوم على أساس كبتها وتعطيلها وتحريمها في نفسها، وإنما تقوم على أساس توجيهها وتنظيمها وتقويمها، فانّ الله تعالى هو الذي أودعها في الإنسان بحكمته، فالردع عنها في حد نفسها يستحيل صدوره من الشارع الحكيم، وإنما المعقول منه توجيهها وتقويمها، فلا يعقل مثلاً صدور تحريم من الشارع للأكل في حد نفسه أو للميل الجنسي في حد نفسه، وإنما المعقول توجيه مثل هذه الغرائز والسيطرة عليها.
إذا اتضح ذلك نقول: إنّ الميل البشري الذي نجده في المجتمعات البشرية بلا إستثناء وعلى مرّ التاريخ للغناء ميل جبلي يندفع نحوه الإنسان من داخل ذاته ويلاحظ حتى في الأطفال الصغار الذين لا عهد لهم بمجالس الغناء، وإنما يميلون إليه بدافع من داخل ذواتهم. وإذا تمَّ ذلك فان الميل للغناء يخضع لتلك القاعدة المزبورة، إذ أن طريقة الشارع الأقدس في التعامل مع هذه القضايا تقضي بأن لا تحارب في حد نفسها ولا يمنع عنها في ذاتها، وإنما توجّه وتقوّم فلا مجال لحمل التحريم على حرمة الغناء في نفسه.
ثانياً: - إنّ الإرتكاز العقلائي قائم على الغناء كفن له قيمة جمالية في حد ذاته فليس في نفسه قبيحاً، ولا شيئاً فاسداً وباطلاً، وإنما يقبح لما يعرض عليه، فإذا أتخذ للقبائح كان قبيحاً، وإذا لم يتخذ لها فليس في حد ذاته قبيحاً.
وهذا الإرتكاز يمكن إعتباره قرينة لبية تحتف بنصوص التحريم، وتمنع انسياق حرمة الغناء في نفسه منها، وتمنع من إنعقاد الإطلاق فيها. فإن تحريم الغناء في حد ذاته لما كان خلاف الإرتكاز فانّ العرف لا يفهم من نصوص التحريم ذلك، وبالتالي لا ينعقد لتلك النصوص اطلاق يقتضي تحريم طبيعي الغناء.
ثالثاً: - إن نحو الإستفادة من الغناء في عصر النصوص يؤثر في فهم النصوص إذ يكفي إحتمال كون النظر فيها متجهاً إلى هو المتعارف في ذلك الزمان، إذ تكون ذهنية الناس بمن فيهم المتشرعة والرواة مشبعة بالواقع الذي عليه الغناء في ذلك الزمان فنحتمل على الأقل أنّ هذه الذهنية توجب ظهور أخبار التحريم عند السامع في ذلك، وإحتمال القرينة المتصلة يوجب الإجمال، ولا يمكن التمسك بالإطلاق.
وإذا استقرأنا التاريخ نجد أنّ التعامل الشائع مع الغناء منذ الجاهلية ومروراً بالعصر الأموي والعباسي كان يتجسد في إتخاذ الغناء وسيلة للهو الماجن والمبتذل، فكثيراً ما كان الغناء يستبطن محتوى مبتذل، وغالباً ما كانت مجالس الغناء مجالس منكر، وغالباً ما كان الغناء يساهم في إيجاد التحلل في المجتمع مضافاً إلى أن المغنين والمغنيات كانوا أناساً متحللين لا يلتزمون بالغناء كفن موجه وإنما ينحون به نحو الإنحراف، فلم يكن التعامل مع الغناء في الغالب نزيهاً.
وهناك شواهد وقرائن عديدة على ذلك لا تغيب عمن رجع إلى الكتب التي تحكي حال الناس في ذلك العصر، ولذا تجد أن الإمام مالك حين يسأل عن الغناء يقول انما يفعله عندنا الفساق الأمر الذي يشير إلى ما ذكرناه من أن التعامل الغالب مع الغناء لم يكن نزيهاً. ويمكن أن نستشف ذلك من ألسن الروايات نفسها نظير ما ورد من أن الغناء عش النفاق وأن استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع، وتطبيق قول الزور على الغناء أو تطبيق لهو الحديث المضل عن سبيل الله تعالى على الغناء، وتحريم كسب المغنيات اللواتي يدخل عليهن الرجال، وفي المقابل نفي البأس عن الغناء في الأعراس من المغنيات اللواتي لا يدخل عليهن الرجال، كما ورد نفي البأس عن الغناء في الفطر والأضحى والفرح ما لم يزمر به، وورد الحثّ على قراءة القرآن بالترجيع والصوت الحسن. فانّ كل ذلك يشير إلى كون النظر في التحريم متجهاً إلى إدانة الواقع الفاسد الذي كان عليه الناس في تعاملهم مع الغناء، فإنّ الغناء في هكذا واقع يكون عشاً للنفاق ومنبتاً وموجباً للإنحراف عن سبيل الله تعالى، وأما الغناء النزيه والتعامل معه كفن يستفاد منه في أغراض نزيهة فليس مورداً للأدانة والتحريم.
فالغناء بعنوانه ليس حراماً ولو كان مطرباً بالفعل، وإنما يحرم إذا وقع على وجه الباطل، أو كان موجباً للاضلال والإنحراف عن مقررات الشريعة، كما إذا كان محتواه باطلاً، أو مضلاً، أو اتخذ وسيلة للإنحراف، أو كان اللحن فيه باعثاً على الإنحراف، أو إذا اقترن بمعصية. وأما في غير ذلك فليس الغناء حراماً بايّ لحن وقع. ولا يحرم إذا وقع على سبيل اللهو - ما لم يكن اللهو محرماً - ذلك أنه لم يدل دليل على حرمة التلهي بالغناء بل إن الغناء الواقع في الأعراس إنما يقع على وجه اللهو غالباً.
ثم إنه لا ملازمة بين الغناء في نفسه والإنحراف، فليس كل غناء يبعث على الإنحراف ويساوق الباطل، وإنما الغناء صوت يمكن أن يستفاد منه في مجالات الباطل والإنحراف، ويمكن أن لا يستفاد منه في هذه المجالات بل قد يستفاد منه في مجالات الحق والتأثير الإيجابي.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد