الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور الأسئلة والاستفتاءات
نقد نظرية الإمامة الدينية عند الشيعة
سماحة الشيخ حسين المؤيد
قرأت في موقعكم الإلكتروني كلاماً لكم تحت عنوان (إختصاص السنة بالنبي الأعظم دون غيره) تذكرون فيه عدم التزامكم بتعريف علماء الإمامية لمصطلح السنة ، وأنكم ترون أن أقوال أئمة آل البيت عليهم السلام وأفعالهم وتقريراتهم ليست من السنة، وليست مصدرا للتشريع. مع أن ما يصدر عنهم عليهم السلام مأخوذ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . إذن ما يصدر عن الأئمة ليس رأياً واجتهاداً، وإنما هو ما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون من السنة، وهذا هو الفرق بين ما يصدر منهم عليهم السلام وبين أقوال غيرهم التي هي اجتهاداتهم. فما يصدر من الأئمة هو ما يصدر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن على لسانهم وأفعالهم فيكون مصدراً للتشريع. أرجو الجواب بتفصيل مع بيان دليلكم.الجواب : -
هذا الموضوع من المواضيع المهمة والخطيرة والحساسة، وتترتب عليه نتائج مفصلية، وهو من المعالم الفاصلة بين المدرسة الشيعية وغيرها على مستوى العقيدة وما يترتب عليها من البناء الفقهي، الأمر الذي يجعل الاختلاف بين الشيعة والسنة يتجاوز حدود الاختلاف المذهبي والتنوع في الإجتهادات الفقهية، فهو ليس كالاختلاف الإجتهادي بين المذاهب الأربعة فيما بينها. بل نستطيع القول بأن هذه القضية تضع حداً فاصلاً بين منهجين متباينين لا يلتقيان، وهو ما يشكِّل عائقا أمام التقريب الحقيقي الذي يؤصل للوحدة المنشودة.
إن المدرسة الشيعية الإثنا عشرية ترى أن ما يصدر من الأئمة الإثني عشر هو مصدر للتشريع، وتعرِّف هذه المدرسة السنةَ بأنها قول المعصوم نبياً أو إماماً وفعله وتقريره، فيعامل ما يصدر عن الأئمة معاملة ما يصدر عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وما ذكرته أنت في سؤالك هو ما يدور على الألسنة تبريراً وتذرعاً، ولا يعبِّر عن المبنى الأساسي لهذه الفكرة، فهو يحاول تبرير التعامل مع ما يصدر عن الأئمة على أنه مصدر تشريعي، بنحو يصوِّرهم كرواة عن النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن المبنى الأساسي لهذه القضية في العقيدة الشيعية غير ذلك.
وتوضيح هذه القضية يحتاج إلى بحث تفصيلي يخرج عن نطاق الجواب على سؤال، لكننا سنسلط الضوء على هذه القضية بما تتضح معه من حيث مبانيها، ومن حيث مناقشتها ونقدها. وذلك في النقاط التالية :-
النقطة الأولى: - في كتب الحديث المعتبرة عند الإمامية روايات مروية عن الأئمة تكشف مصادر علم الأئمة بما يُخرج ما يصدر عنهم عن كونه مجرد رواية أو وراثة علم عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ففي معتبرة علي السائي عن أبي الحسن الأول موسى عليه السلام قال: مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ وغابر وحادث، أما الماضي فمفسَّر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا. وهذه الرواية صريحة في أن من مصادر علم الأئمة بل هو أفضلها هو العلم الذي يقذف في قلوبهم وينقر في أسماعهم، فهو علم يأتيهم من جهة الله عز وجل مباشرة كما يوحي به تعبير القذف في القلب أو عبر ملَك كما يظهر من التعبير بنقر في الأسماع. وفي رواية أخرى إن الإمام إذا أراد أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك. وفي معتبرة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } [الشورى: 52] ، قال: خَلق من خَلق الله عز وجل أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده. والرواية صريحة أيضا في أن مصدر علم الإمام هو ملَك أعظم من جبرئيل وميكائيل يكون مع الإمام أي يرافقه فيخبره ويسدده. وفي معتبرة زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لولا أنا نزداد لأنفدنا قال: قلت: تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: أما إنه إذا كان ذلك عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر إلينا. ويستفاد من هذه الرواية أمران :-
الأول: - أن ما يروونه وما ورثوه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يسدّ حاجتهم العلمية، وبالتالي لا يمكن أن يكون هو المصدر الأوحد لعلمهم، وينتج ذلك أنه ليس كل ما يصدر عنهم فهو ما وصلهم عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
الثاني: - أنهم يزدادون من العلم من طريق غيبي، فإن فسرت الرواية على أن المقصود أن ازديادهم من العلم هو عبر ما يوصله ملَك اليهم، فهذا يعني أن علمهم مستقى من الله عبر الملائكة، غاية ما في الأمر أنه قبل أن ينتهي اليهم يعرض على رسول الله عليه الصلاة والسلام ليكون مطلعاً عليه، وعلى الأئمة السابقين ليكونوا مطلعين عليه، كي لا يكون الإمام اللاحق أعلم من رسول الله ومن الأئمة الذين سبقوه. وإن كان المقصود من الحديث أنهم يزدادون علما عبر استنباطهم من كتاب الله، فإن هذا الإستنباط يعرض على رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى الأئمة السابقين فيقَر ثم ينتهي إليهم، فهو ليس وراثة عن رسول الله، وإنما سلك طريقاً غيبياً من خلال عرضه على الرسول وهو في عالم البرزخ. والظاهرمن عبارة (أما إنه إذا كان ذلك عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر إلينا) أن المقصود بالرواية هو الأول.
إذن ما ورد في كتب الحديث المعتبرة عند الإمامية يكشف عن مصادر غيبية لعلم الإمام. ونحن هنا لم نورد كثيرا مما روي في هذا المجال، وإنما اقتصرنا على جملة من الروايات المعتبرة سنداً حسب قواعد علم الرجال عند الإمامية، وإلا فالروايات في هذا المعنى ونحوه كثيرة. وقد أخذ بهذه الأحاديث أو بعضها جلّ علماء الإمامية إن لم نقُل كلهم، وبنوا عليها عقيدة الإمامية في اعتبار ما يصدر من الأئمة كالذي يصدر من رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا من باب كونهم رواة أو ورثة لعلم وصلهم عن النبي.
ونحن إنما نذكر هذا تفنيدا للإعتذار والتبرير الذي يحاول البعض أن يمرر من خلاله اعتبار ما يصدر عن الأئمة على أنه من السنة بذريعة أنهم رواة وورثة لما وصلهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإلا فإنني أرى أن الإعتقاد بالروايات المتقدمة التي تكشف عن مصادر غيبية لعلم الأئمة ما هو إلا انحراف وفساد في العقيدة، وأن فكرة استناد الأئمة في علمهم إلى مصادر غيبية هي فكرة باطلة وغلو ضال وليس لها أدنى نصيب من الصحة، فهي من جهة التفاف على مفهوم النبوة يجعل الفارق بين النبي والإمام فارقاً شكلياً، فلا يوجد فارق جوهري، وبالتالي فهذا المفهوم يتناقض تماما مع ختم النبوات، مضافاً إلى استلزامها القول بأن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام قد قبض ولم تكتمل الشريعة ولم يكمل الدين وهو يخالف صراحة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3] ، كما أنها تتنافى والثقافة القرآنية التي يفهمها المسلم من كتاب الله تعالى والقاضية باختصاص السفارة بالأنبياء والرسل، واختصاص ما ينزل من السماء عبر الملائكة بالأنبياء والرسل، فهي منافية للقرآن الكريم.
النقطة الثانية: - إذا كان ما يصدر من الأئمة ليس سوى ما وصلهم من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فلماذا لم يلتزموا بنسبة ما يصدر منهم إليه مباشرة، لا سيما وأن هذه النسبة ستجعل حديثهم أوقع في النفوس، وتجعل محوريتهم لجميع المسلمين أقوى، وتبيّن عالي مكانتهم بوصفهم أهل بيت النبي الأكثر إطلاعاً على سنته وعلمه، وأن ما وصل إليهم أغزر مما رواه غيرهم، بل إن ما وصلهم قد تميّز فيه الناسخ من المنسوخ والعام من الخاص والمطلق من المقيّد. بل ستكون لهم الحجة على غيرهم فيما يذهبون إليه استناداً إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهم غير متهمين على حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا على مجموع سنته.
ونحن نجد أن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام قد ميّز في مجموعه بين ما وصله من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما يعبِّر عن رأيه وفتواه، فكان له مجموعه الحديثي والفقهي، فكان إذا أفتى بفتوى فيها نص وصله عن النبي عليه الصلاة والسلام، ذكرها بصيغة الرواية والتحديث عن النبي، والتزم بذلك في كل مجموعه. فإذا كان ما يصدر عن الأئمة عند الإثنا عشرية من هذا القبيل فلماذا لم يلتزموا في بياناتهم بنسبة ذلك إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه. بل إننا وجدنا فيما أثر عنهم أنهم ربما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الأمر الذي يدلل على أن ما صدر عنهم بغير صيغة التحديث عن النبي ليس شيئاً مأخوذا من نص نبوي، وإنما هو فتوى لهم اعتملت فيها عناصر الإجتهاد والإستنباط، وإن كان له مستند من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما هو الحال في غيرهم من أعلام الدين من فقهاء الصحابة والتابعين.
النقطة الثالثة: - إن عقيدة الإمامية في شمول مصطلح السنة عندهم لما يصدر من الأئمة وعدم اختصاصه بالنبي عليه الصلاة والسلام، لا تقوم على أساس أنهم مجرد رواة عن النبي، ولا على أساس أنهم ورثة سنته بمعنى اجتماع ما صدر عنه صلوات الله وسلامه عليه عندهم، وإنما على أساس أنهم المرجعية الوحيدة لسنة النبي، والقيِّمون عليها، وأن هذه القيمومة هي أحد الأبعاد الرئيسة في إمامتهم.
والتأصيل الذي يذكره علماء الإمامية لهذه القضية هو أن السنة النبوية لا يمكن أن تكون مرجعاً يجب على عموم المسلمين في كل عصر وجيل أن يتمسكوا بها، إلا في إحدى حالتين :-
الأولى: - أن تكون هذه السنة قد جمعت ودونت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وحددت مفاهيمها.
الثانية: - أن يكون هناك مسؤول عنها وعارف بها معرفة كاملة بحيث يكون هو القيِّم عليها والمرجع فيها.
وبما أن الحالة الأولى غير حاصلة، لأن السنة النبوية لم تكن مجموعة ولا مدونة على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولم تكن محددة المفاهيم، بل فيها الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيّد، وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم ويتحدث بالحديث بحضرة من حضر من أصحابه، وربما لا يكون سوى الواحد والإثنين، ولم يحدثنا التاريخ أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يجمع أصحابه جميعاً أو جلهم ويبلغهم بما يصدر عنه من أحكام، الأمر الذي يعني العجز عن الإطلاع على السنة النبوية، فماذا يصنع من يريد التمسك بسنة النبي من بعده؟ هل يظل يبحث عن جميع الصحابة وهم كثر متفرقون في البقاع ليسألهم عن الحكم الذي يروم معرفته؟، أو يكتفي بمن يراه منهم وهو لا يجزيه لاحتمال صدور الناسخ أو المقيِّد أو المخصص وهو عند من لم يجدهم، ولا يجوز العمل بالعام أو المطلق قبل الفحص عن مخصصه أو مقيِّده، فيكون الأمر بالتمسك بالسنة في والحالة هذه تعجيزياً. إذن لم يبق سوى الحالة الثانية فهي الضمانة لبقاء الشريعة وحفظ السنة وتمهيد سبيل التمسك بها. وعلى هذا الأساس قام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو الحريص على الدين وعلى عدم التفريط بالرسالة بالإرجاع إلى أهل البيت وبيان إمامتهم من بعده. وقد دلّ هذا الإرجاع على أمرين أساسيين:-
الأول: - أنه مستند إلى تكليف من الله تعالى، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام مضافاً إلى كونه معصوماً، لا يتصرف فيما يعود إلى شؤون الدين والرسالة بمعزل عن توجيه الله تعالى له. وهذا يعني أن مرجعية أهل البيت قد جعلت من قبل الله عز وجل .
الثاني: - أن أهل البيت هم المحيطون بالسنة النبوية، والعارفون بها معرفة كاملة، دون غيرهم، وإلا لما انحصرت المرجعية بهم.
وبهذا التأصيل تقضي عقيدة الإمامية أن ما يصدر من الأئمة هو مصدر تشريعي لا باعتبارهم مجرد رواة، وإنما بوصفهم القائمين على السنة النبوية والمرجع الوحيد لها.
وهذه الفكرة التي أخذت صفة العقيدة بما تنطوي عليه من التأصيل هي محلّ مناقشة معمَّقة. وتتضح أوجه الخلل فيها من خلال الملاحظات التالية :-
الملاحظة الأولى: - إن هذه القضية لو صحت لكانت مرجعية أهل البيت عليهم السلام من أصول الدين وأركانه الأساسية، ولتوقف التعبد بالشرع الحنيف عليها، وبدونها ستقع الأمة في ضلال عظيم ومبين، ومن ثَم كان اللازم أن تقوم عليها الحجة الواضحة الدامغة الخالدة التي تبقى لائحة على مرِّ الأجيال المتعاقبة، وأن لا تقلَّ الحجة عليها عن مستوى الحجج التي أقيمت على الناس فيما يتصل بالتوحيد والنبوة والمعاد وغيرها من أساسيات الإيمان، وقد قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] ، ومن الجليّ أن البيان لا بد أن يكون واضحاً دامغاً قاطعاً للّجاج خالدا لئلا يكون للناس على الله حجة، فالأمر يتصل بما هو ركن أساسي في الدين وأصل في الإيمان.
ولا بد في الحجة التي تقام على هذه القضية، كسائر الحجج التي تقام على ما هو بمستوى الأصل في العقيدة والركن في الدين أن تكون من كتاب الله عز وجل ، لأنه وحده الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يعترضه الريب، وهو الذي تكفل الله تعالى بحفظه، وبه تكون الحجة خالدة، فلا تكون في معرض النسيان أو التغييب أو التلاعب. ولابد أيضاً أن تكون الحجة قائمة بالمحكم من آيات الكتاب، لأن قيامها بالمتشابه نقض للغرض وخلف كونها حجة واضحة دامغة لا يعتريها الريب، ولا ينفتح منها مجال للزيغ والإختلاف. ونحن نجد قيام الحجة على أصول الإيمان وأركان الإسلام في كتاب الله تعالى وبمحكمات آياته، فلم يهمل القرآن إقامة الحجة على ذلك، ولم توكل إقامة الحجة إلى النبي دون القرآن.
وأما السنة الشريفة، فلا يصح منهجياً أن تكون هي الحجة على ذلك، لأن الحجة لا بد أن تكون خالدة قاطعة، بينما السنة إذا لم تتوفر فيها شروط تجعلها بمنزلة آيات الكتاب المحكمة، لا تقام بها الحجة على الأصول والأركان، لأنها ربما تكون في معرض النسيان أو التغييب أو التلاعب ولو بطول العهد والمدة. كما إنه بناء على التأصيل الذي تقدم بشأن مرجعية أهل البيت عليهم السلام ، لا يصح أن تكون السنة حجة عليها، لأن السنة على ذلك التأصيل هي بنفسها بحاجة إلى مرجعية، وإلا لقائل أن يقول: إن الرجوع إلى الموجود من أحاديث بشأن مرجعية أهل البيت لا يجزي لاحتمال صدور الناسخ أو المخصص أو المقيِّد، أو تم الإعتماد على قرائن منفصلة، وكل ذلك غير مدوَّن، أضف إلى ذلك انتشار الكذب والوضع والدس للأغراض المتنوعة، فلا يمكن أن تقوم الحجة على قضية كهذه من خلال السنة، وإنما لا بد في ذلك من قيامها بمحكمات الكتاب.
والمتتبع لآيات القرآن الكريم لا يجد آية واحدة محكمة تدل على المرجعية المنحصرة لأهل البيت، وقيمومتهم على السنة النبوية والشرع، وما يستدل به من آيات كريمة مضافاً إلى عدم دلالتها، فإن أقل ما يقال فيها أنها ليست بمستوى ما تتطلبه الحجة الواضحة الدامغة القاطعة، ومن ثَم وقع في الإستدلال بها النقض والإبرام، والإجتهاد والإختلاف، لأنها تحتاج إلى النظر الذي تتفاوت فيه الأفهام. بينما الآيات التي نهضت بحجج التوحيد والنبوة والمعاد وغير ذلك من الأركان هي مما لا يقبل الإختلاف ولا مجال فيها للنظر، فهل هناك مجال للإختلاف في دلالة قوله تعالى: (إنما إلهكم إله واحد) على وحدانية الله تعالى، أو دلالة قوله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] على نبوته، أو دلالة قوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون : 16] على المعاد، وهلم جرا. فأين الحجة من محكمات الكتاب بهذا المستوى من البيان الذي لا يمكن أن يقع فيه الإختلاف مهما تقادم الزمن على قيمومة أهل البيت على السنة والشرع؟.
وهكذا نصل إلى نتيجة أن مرجعية أهل البيت للسنة وقيمومتهم عليها لم تقم عليها الحجة المطلوبة في ثبوتها، وعدم قيام الحجة المطلوبة عليها يساوق عدم وجودها في الدين، لأن وجودها في الدين يستدعي بالضرورة قيام الحجة المطلوبة في ثبوتها عليها.
الملاحظة الثانية: - إن مرجعية أهل البيت عليهم السلام لو كانت ثابتة، لكان اللازم أن يقوم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بتربية الأمة عليها، لأنه منزه عن التفريط بالرسالة، ويلزمه لحفظ الشريعة أن يرسخ هذه المرجعية في الأذهان والنفوس بنحو تبقى راسخة قائمة في الأمة لا يتمكن أحد من طمسها. مع أن المتتبع لسيرته عيه أفضل الصلاة والسلام لا يقف على شيء من ذلك، فلم يعهد منه صلوات الله وسلامه عليه التباني على إرجاع الصحابة إلى علي عليه السلام ولو من باب أن مشاغله لا تعطيه الفرصة الكاملة لتغطية حاجة الناس دينيا، ولم يعهد أن سيرته قامت على نصب علي عليه السلام حكما بين الناس عند الإختلاف في أمور الدين، ولم ينقل إلينا أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر عليا أن يجلس في المسجد ليفتي الناس بما تعلمه من رسول الله وما خص به من علم في هذا المجال، ولم ينقل إلينا أن النبي عليه الصلاة والسلام وبعد اتساع رقعة الإسلام أعطى توجيهاته للمسلمين في البقاع أن يرجعوا إلى علي عليه السلام ، وأمثال ذلك من التصرفات العملية التي ترسخ في أذهان الجميع قيمومة علي عليه السلام على السنة وكونه المرجع الوحيد في معرفتها.
فإن قيل: قد صدرت من النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث شتى وبمناسبات متنوعة في هذا الشأن.
قلنا: لا يكفي ما صدر في ترسيخ هذا الأمر، فبعضه لا يدل على القيمومة على الشرع، وبعضه لم يأت بصيغة بيان عام للناس، وبعضه لم يثبت على نحو التواتر. وهذا المقدار ليس هو الذي يرسخ عمليا هذه القضية، ولا يكفي لتربية الأمة عليها بنحو يجعلها قائمة في الأمة تنعقد عليها سيرتها العملية كدين لا محيد للمسلم عنه، كما ترسخت قضايا كثيرة تربت عليها الأمة وانعقدت عليها السيرة العملية حتى في قضايا فرعية كصلاة الجماعة مثلاً.
الملاحظة الثالثة: - إن المتتبع في القرآن الكريم وسيرة النبي العظيم يجد منحى آخر يغاير منهج حصر القيمومة على الشرع بأهل البيت عليهم السلام ، فمن جهة لم يرد الأمر بالإتباع ولا الحث عليه في القرآن الكريم إلا في اتباع القرآن (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)، واتباع النبي { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف : 158] ، واتباع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 100] ، وورد التحذير من اتباع غير سبيل المؤمنين { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء : 115]. ولا يذكر القرآن الكريم في مقام التنازع إلا مرجعية الله والرسول { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . ومن جهة ثانية نجد قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122] وهذه الآية تؤصِّل منهج التفقه في الدين وتجعل المرجعية للفقيه في الدين، وهي باقية على إطلاقها، وقد كان تطبيقها العملي في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام هو التفقه على الرسول، وكان هذا التفقه كفيلا بأن يجعل المتفقه مرجعا فيما تعلمه، وكان هذا هو المنهج المتبع بين المسلمين منذ جيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم يرد أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بمناسبة هذه الآية قد أرشد أصحابه وسائر المسلمين إلى التفقه على أهل البيت دون سواهم.
وأما السيرة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يتولى تعليم الأحكام للناس وكان في الصحابة من عرف بالفقه والعلم، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يرسل الصحابة لتعليم الدين.
فهذا هو المنهج الذي ترسخ بين الناس وانعقدت عليه سيرة المسلمين. نعم كان الصحابة يتفاوتون في العلم والفقه، وكل يفتي بما يعلم، ويرجع عند الإختلاف إلى المعروفين بالعلم والفقه، ولا شك في أن الإمام علياً عليه السلام كان البارز في هذا المجال، ولكن ذلك غير قضية المرجعية المنحصرة والقيمومة على السنة والشرع.
الملاحظة الرابعة: - إن الشريعة لو كانت بحاجة إلى القيِّم عليها بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بحيث يتوقف حفظها على ذلك، ولولا القيمومة لكانت الشريعة في معرض الضياع والتغيير، وتاهت الأمة في الضلالة، لكان الواجب على الله تعالى من باب اللطف أن يمكِّن للأئمة إمامتهم في الواقع الخارجي كما مكَّن لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وذلك من أمر الله الذي قال تعالى عنه: { وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف : 21] ، لا سيما وأن الله تعالى جعل الإسلام خاتمة الديانات السماوية، وتكفَّل بإظهار هذا الدين على الدين كله، والتمكين لهذا الدين، قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور : 55]. وقد تحقق التمكين للدين على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن بعده لا سيما في عهد أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
ومن الواضح أن وجود الإمام من غير تمكين لن يحقق الغرض، لأنه لن يكون قادرا على حفظ الشريعة، ووقاية الأمة من الضلالة، كيف وأكثرية الناس لا ترى إمامته وقيمومته على الشرع، وما يصدر عنه من أحكام لا تأخذ به غالبية الأمة، ويكون اجتهاد غيره ظاهراً عليه، بل على ما يعتقد الشيعة سيكون مضطراً إلى كتمان بعض الأحكام، والى التقية في الأحكام فيصدر عنه ما هو مغاير للحكم الواقعي، وكلما تمادى الزمن كلما اشتد عجز الناس عن معرفة الإمام، أضف على ذلك أن الإمام في غيبته لا يتمكن من النهوض بحق حفظ الشرع.
إذن كيف تحفظ الشريعة من غير تمكين؟. وليس من المنطقي ولا من المعقول أن تبقى الأمة سادرة في الضلالة حتى يظهر القائم وهو لا يحكم إلا حفنة من السنين فقط. أفيعقل أن يرضى الله تعالى للأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، والتي أرادها الله تعالى أن تكون بالإسلام أمة وسطا شاهدة على الناس أن تمر عليها القرون الطويلة وهي في الضلال والشريعة لا ينهض من يحفظها لعدم التمكين له، ثُم يقال إن الغاية تتحقق في حفنة من السنين في آخر الزمان حين يظهر المهدي؟.
فإن قيل: إن إعراض الناس عن الإمام الحق هو الذي أوقعهم في الضلالة فهم يتحملون مسؤولية ذلك.
قلنا: إن الناس لم تُقَم لهم الحجة الواضحة الدامغة الخالدة كي يكونوا مسؤولين، ثُم ما ذنب الأجيال التي تلي وهي مخلصة في إيمانها وحرصها على الإلتزام بدينها، فكيف يأخذها الله تعالى بجريرة من تخلّف من الجيل الأول - حسب الفرض -، وكيف يتركها الله تعالى في الضلالة لتخلف الجيل الأول - حسب الفرض -، على أن الكلام هو في وجوب التمكين في الواقع للقيِّم على الشرع لتحقيق مقاصد الشرع شاء من شاء وأبى من أبى، ومن أجل أن لا يحقق المعرضون - حسب الفرض - أغراضهم.
الملاحظة الخامسة: - إن أهل البيت الذين اختارهم الله تعالى - حسب الفرض - للقيمومة على السنة النبوية الشريفة وعلى الشرع، وعهد إليهم بهذه المسؤولية الجسيمة ليس لهم شيء مدوَّن من قبلهم فيه بيان للسنة وتمييز للناسخ من المنسوخ وبين الحكم العام والخاص، والحكم المطلق والمقيّد، وبين محكمات السنة ومتشابهاتها، وبين ما يصح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وما هو مكذوب عليه، والرد على الإجتهادات الخاطئة للآخرين من خلال بيان مخالفتها للسنة الصحيحة. فليس لأهل البيت شيء مدوَّن من قبلهم يحفظ به الشرع وتستبين به سنة النبي التي هم القوام عليها والمرجع الوحيد فيها. وكل ما هو موجود ليس سوى أحاديث تروى عنهم اعتمدوا فيها على القرائن المنفصلة، واختلط فيها العام والخاص والمطلق والمقيّد، وفيها المحكم والمتشابه، وكل ذلك مشتت موزع بين الرواة، وفي الرواة من هو الثقة ومن هو الضعيف والكذاب، وفيهم من أخذ الأحاديث ضابطا لها وفيهم غير الضابط وفيهم من ينتمي إلى فرق فاسدة، وقد نالت يد الدس والتحريف مما روي عن أهل البيت، وضاعت كثير من الكتب والأصول التي كتبها الرواة عنهم، وليس لدى الشيعة كتاب واحد يجمعون على صحة ما فيه، هذا غير التعارض بين الأخبار الذي وقع كثيرا في أحاديثهم حتى أصبح ما أثر عنهم بحاجة إلى القيِّم. ومع هذا كله كيف يرجع إليهم في معرفة السنة النبوية؟ ومعرفة أحكام الشرع لا سيما الواقعية؟، أوَ ليس السبب المذكور في تأصيل مرجعية أهل البيت وقيمومتهم على السنة موجود بذاته وبنحو أشد فيما أثر عنهم؟. بل ربما جرّ الإستفهام إلى استفهام آخر حاصله أن حفظ الرسالة والشرع وسنة النبي إما أن لا يكون قد عهد بها إلى أهل البيت على وجه الخصوص، أو عهد بها إليهم لكنهم لم ينهضوا بها تقصيرا ولذا لم يتركوا شيئاً مدوناً وافياً ببيان السنة والشرع، أو لم ينهضوا بها قصورا لعدم التمكين لهم وعدم مواتاة الظروف. أما التقصير فلا يحتمل في حقهم لورعهم وأمانتهم وحرصهم على الدين والأمة، وأما القصور فيعني أن جعل القيمومة لهم على الشرع سيكون عبثا ولغوا لعدم تمكنهم من تحقيق الغرض، والعبث واللغو لا يحتمل في حق الشارع الحكيم، فلم يبق سوى الفرض الأول وهو الصحيح، حيث لم تجعل القيمومة على السنة والشرع لهم.
الملاحظة السادسة: - لو كانت المرجعية المنحصرة، والقيمومة على السنة والشرع ثابتة لأهل البيت عليهم السلام ، لكان من أوائل من التزم بها من الصحابة من يعتقد الشيعة بأنهم كانوا من شيعة علي عليه السلام ، مع أننا نجد أن هؤلاء كانوا يحدثون الناس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويفتونهم بأحاديث النبي، ولم يمتنعوا عن ذلك، مع أنهم لو كانوا يرون أن القيمومة على السنة والشرع هي لأهل البيت، واليهم يجب أن يرجع الناس، لما ساغ لهم أن يفتوا بأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولنوهوا بأن المرجع في ذلك هم أهل البيت. فهذه أم المؤمنين أم سلمة عليها السلام كانت تحدِّث عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأحكام الشرع، بل روى عنها أئمة آل البيت، ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل قال: حدثنا يحي بن سعيد عن جعفر بن محمد قال: حدثني أبي عن علي بن حسين عن زينب ابنة أم سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتفا فجاء بلال فخرج إلى الصلاة ولم يمس الماء. وقد كان سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي ويفتي الناس بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك فتواه بالمسح على الخفين، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي مسلم مولى زيد بن صوحان العبدي قال: كنت مع سلمان الفارسي فرأى رجلا قد أحدث وهو يريد أن ينزع خفيه للوضوء فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وعلى عمامته ويمسح ناصيته، وقال سلمان: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه وعلى خماره. علما أن فتوى سلمان رضي الله عنه لا توافق ما عرف عن مذهب آل البيت من عدم جواز المسح على الخفين. وكذلك الحال في عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنهما، فقد رووا الكثير من الأحاديث، وأفتوا الناس بحديث النبي. بل تجد ذلك عند آل البيت ممن لا يراهم الإمامية أئمة، لكن يوثقونهم ويعتقدون بعدالتهم وجلالتهم كزيد بن علي الشهيد الذي له مجموعه الحديثي والفقهي، وقد كان يعدّ من أعلام آل محمد المشهود لهم بالعلم والفقه، مع أنه عاصر أخاه محمد بن علي الملقب بالباقر، وعاصر ابن أخيه جعفر بن محمد الصادق، ولم يكن يعتقد بقيمومتهما على السنة والشرع، فكان يحدث ويفتي. ولا يحتمل في حق زيد عدم الإطلاع على هذه القضية لو كانت ثابتة، ولا يحتمل في حقه وهو المعروف لدى الجميع بورعه أن يتمرد ويعصي في هذا الأمر. كما أن الإمام أحمد أورد في مسنده روايات لأم هانيء بنت أبي طالب أخت الإمام علي عليه السلام تحدث فيها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في أمور تتصل ببعض الأحكام الشرعية، فلم تمتنع عن ذلك بحجة انحصار المرجعية والقيمومة بالإمام علي والأئمة من بنيه. بل كان نفس أئمة أهل البيت يروون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام عن الصحابة والتابعين، فقد روى أبو جعفر الباقر عن أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة عليهما السلام، وعن ابن عباس وعن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، وروى عن سعيد بن المسيب. وروى في سير أعلام النبلاء عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال: كنت أنا وأبو جعفر نختلف إلى جابر نكتب عنه في ألواح. وقد روى جعفر الصادق عن عروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وجده القاسم بن محمد وعن الزهري وغيرهم.
الملاحظة السابعة: - إن التأصيل الذي اعتمدته عقيدة الشيعة الإمامية يصوِّر السنة النبوية الشريفة على أنها أحاديث متناثرة كانت تلقى في مناسبات شتى على نطاق محدود في الغالب وتعتمد القرائن المنفصلة، فالإرجاع اليها تعجيزي، ومن ثَم لا بد من مرجعية لها القيمومة على السنة يرجع اليها في معرفة السنة وما تنطوي عليه من أحكام ومفاهيم.
ولا شك في أن هذا التصوير غير صحيح، ومخالف للواقع ولمنطق طبيعة الأشياء. ولتوضيح ذلك لا بد من الإلفات إلى ما يلي :-
أولاً: - إن للرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الدور الأساسي والمحوري في الرسالة الإسلامية، فهو ليس مجرد بشير ونذير، ولا مجرد رسول لإيصال الوحي والكتاب إلى الناس، وإنما هو الذي يقوم بتعليم الكتاب ومفاهيم الإسلام وأحكامه وتربية الناس على تعاليم الدين. وقد تكرر في القرآن الكريم في آيات بينات بيان هذا الدور المحوري للنبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 151] ، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران : 164] ، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة : 2] ، وقال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
وهذا الدور المحوري للرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يكون قد تمَّ في إطار بيانات متناثرة تلقى في مناسبات شتى على نطاق محدود في الغالب وتعتمد القرائن المنفصلة، فطبيعة الدور وطبيعة مهمة التزكية وتعليم الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتعدى ذلك وتقتضي بعدا عاما وإطارا مجتمعيا وحركة من نوع آخر.
ثانياً: - إدراك الصحابة رضي الله تعالى عنهم للدور المحوري لرسول الله صلوات الله وسلامه عيه في بيان الدين وأهمية ما يصدر منه من أقوال وأفعال، مضافاً إلى التزامهم الديني الذي يستدعي بالضرورة الحرص على الحصول على المعرفة بالدين واستيعاب ما يصدر من النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام، وهذا يعني وجود آليات للمعرفة الدينية وحركة باتجاه تحقيق غرض المعرفة الدينية.
ثالثاً: - إن قوله تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122] قد دل على أن التفقه في الدين حالة قائمة في المجتمع على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. أضف على ذلك ما صدر عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من توجيهات بشأن التفقه في الدين وهي توجيهات لم تكن مجرد كلمات قيلت وإنما أخذت طرقها للعمل.
رابعاً: - إن المجتمع الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والدولة التي أنشأها كانا قائمين على شرع الله تعالى، فنظام حياة الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان قائما على الشرع، ومعنى ذلك هو أن ما يصدر عن الرسول عليه الصلاة والسلام لا بد أن يأخذ مدى عاما في الإنتشار والتطبيق.
وفي ضوء ذلك تتجلى لنا حقيقتان: -
الأولى: - إن النبي كان يمارس عملية التربية الدينية والتعليم الديني على نطاق عام، وكان هناك اتجاه عام لدى الصحابة للتفقه في الدين والتعرف على ما يصدر من الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان ما يسمى في ذلك الوقت بتبليغ الشاهد الغائب يمارس على نطاق عام.
الثانية: - إن ما يصدر من الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتحول إلى حالة عملية تنعقد عليها سيرة الناس عملياً، لأن نظام الحياة كان قائماً على أساس ما ينزل من آيات الكتاب وما يصدر من الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وتتشكل السنة النبوية من معطيات هاتين الحقيقتين، وقد جاء إطلاق السنة منسجما مع معناها اللغوي وهو الطريقة والسيرة، فالسنة النبوية هي ما انعقد عليه العلم والعمل على أساس ما صدر عن النبي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والى السنة بهذا المعنى كان الإرجاع، وهو معنى غني عن أية قيمومة ومرجعية خاصة بل يرد ما تشابه من الحديث المروي وما اختلف فيه من الأحاديث إلى السنة، وهذا يعني أنها مرجعية قائمة بذاتها إلى جانب كتاب الله تعالى. وقد كان هذا المعنى مترسخا في أذهان الصحابة لا سيما الفقهاء منهم، فعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن فقال: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.
وهكذا نصل إلى أن اعتبار ما يصدر من أهل البيت عليهم السلام على أنه جزء من السنة، فيكون مصدرا تشريعيا، على أساس قيمومتهم على السنة والشرع، هو نظرية خاطئة، وليس لها مستند صحيح.
فالنتيجة هي اختصاص السنة بالنبي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد