الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

الأسئلة والاستفتاءات

تفسير الآيتين (107 و108) من سورة هود

السؤال:
سأعرض على سماحتكم موضوعاً آخر اختلف فيه المفسرون اختلافاً كبيرا وهو حول ما ورد في سورة هود الآيتين 107 و108 حيث ورد ان الذين شقوا يكونون في النار {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود : 107] وعن الذين سعدوا يكونون في الجنة.
بعض كتب التفسير تشرح أن (إلا) هي أداة استثناء وأن بعض المذنبين من الموحدين يقضون فترة في النار ثم يخرجون منها وهذا هو الاستثناء من أن يكونوا خالدين فيها. كتب أخرى تفسر الموضوع بأن الكفار خالدون في النار ويستثنى من ذلك المدة التي قضوها عند الحساب وفى أرض المحشر ونفس الشيء ينطبق على المؤمنين حيث أنهم خالدون في الجنة ولكن يستثنى من ذلك مدة أرض المحشر.
مفسرون آخرون ذهبوا أبعد من ذلك حيث قالوا إن (إلا) لا تأتي هنا أداة استثناء بل تأتى بمعنى (و) فيكون المعنى إن الكفار خالدون في النار (بمشيئة الله) وإن المؤمنين كذلك خالدون في الجنة (بمشيئة الله).
يهمنى كثيراً أن أعرف رأي سماحتكم وتفسيركم حول ما ورد ذكره آنفاً جزاكم الله كل خير والسلام.


الجواب:
إن هذه الآية الكريمة من الآيات التي صرح غير واحد من كبار المفسرين بأنها من الآيات المشكلة في تفسيرها. ولذا نجد اختلافا شديداً بين المفسرين، وقد ناهزت أقوالهم في تفسير جملتها العشرين ولعلها تربو على ذلك. وكثير من هذه الأقوال غير تام، إما لكونه خلاف ظاهر الآية الكريمة، أو لمخالفته لبعض الحقائق الثابتة، وفي كثير من هذه الأقوال تكلف واضح يدل على الإشكال في فهم هذه الآية أكثر من دلالته على وضوح هذا الفهم.
والمفسر في فهم هذه الآية الكريمة يجب أن لا يخرج عن ظاهر هذه الآية إلا بدليل قطعي وأن يكون في تفسيره لها متسقاً مع مجمل الحقائق المتصلة بما ذكرته الآية الكريمة من معاني وأمور.
إن الآية الكريمة تتحدث عن تقسيم الناس في الآخرة إلى قسمين -:
الأول: - الأشقياء.
الثاني: - السعداء.
وقد ذكرت الآية الكريمة أن الأشقياء محكوم عليهم بعذاب النار وذكرت أن هذا العذاب عذاب خالد أبدي لا نهاية له. وأما التعبير بداومه ما دامت السموات والأرض فهو تعبير كنائي يراد به التأبيد لا التوقيت، فإن العرب كانوا يعبرون عن الدوام بعبارات من هذا القبيل وقد خاطبهم الله تعالى على عرفهم في الكلام فهذا التعبير في الآية الكريمة يفيد الدوام الخالي من الانقطاع.
ثمّ إن الآية الكريمة أتت بالإستثناء المرتبط بمشيئة الله تعالى والذي يُفهم منه أن الخلود في النار ليس مطلقاً، وإنما هناك إستثناء حسب إرادته عز وجل .
والسؤال هو كيف يفهم هذا الاستثناء؟
هناك أربعة وجوه متصورة في فهم الاستثناء -:
الوجه الأول: - أن يكون استثناء من مدة العذاب بالنار وزمانه، بمعنى أن الذين شقوا محكومون جميعاً بالخلود في النار إلا أن يشاء الله تعالى رفع العذاب عنهم الزمن الذي يقدّر ويريد، فالآية الكريمة ناظرة إلى المحكوم عليهم بالخلود في النار والاستثناء مرتبط بالزمن.
الوجه الثاني: - أن يكون الاستثناء من الذين شقوا، بمعنى أن الآية الكريمة تصنف الأشقياء إلى صنفين:
- الأول: - محكوم عليهم بالخلود في النار.
الثاني: - محكوم عليهم بالنار إلى أمد.
الوجه الثالث: - أن يكون الاستثناء من الخالدين بمعنى أن المحكوم عليهم بالنار صنفان -:
الأول: - يبقى خالداً ويثبت عليه الحكم بالخلود.
الثاني: - يرفع عنه الحكم بالخلود.
الوجه الرابع -: أن تكون «ما» في قوله تعالى: { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } [هود : 107] مصدرية، والمعنى إلا أن يشاء ربك عدم خلودهم، ويكون النظر في الاستثناء إلى المحكوم عليهم بالخلود في النار، فالحاصل هو أن الأشقياء محكوم عليهم بالخلود في النار إلا إذا أدركتهم مشيئة الله تعالى.
وما عدا الوجه الثاني، فان سائر الوجوه تشترك في أن النظر فيها هو إلى المحكوم عليهم بالخلود في النار، وعليه لا يصح تفسير الآية الكريمة بتطبيق الاستثناء على العصاة من المؤمنين الذين لم يرتكبوا ذنباً يستحقون عليه الخلود في النار، فالآية الكريمة غير ناظرة إليهم وإنما هي ناظرة إلى من يستحقون الخلود في النار. ويستفاد من الآية الكريمة أن المستحقين للخلود في النار يمكن أن تدركهم مشيئة الله فيرفع عنهم العذاب في أمد معين، أو يرفع عنهم الحكم بتأبيد العذاب حسبما تقتضيه مشيئة الله تعالى.
ويمكن أن ينطبق هذا على الكافرين ومنه ما ورد في بعض الأحاديث أن أبا لهب يرفع عنه العذاب كل سنة يوماً واحداً وهو المصادف ليوم ولادة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه احتفل في ذلك اليوم ابتهاجاً بولادته عليه الصلاة والسلام فقدر الله تعالى كرامة لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يرفع عن أبي لهب العذاب كلما صادف ذلك اليوم. كما يمكن أن ينطبق على المؤمنين الذين ارتكبوا ذنباً يستحقون عليه الخلود في النار كقتل النفس المؤمنة عمداً وغير ذلك من الذنوب التي صرح القرآن الكريم بأن عقوبتها الخلود في النار، فيحكم عليهم بالخلود فيها إلا أن يشاء الله تعالى التخفيف عنهم.
وأما من حيث انسجام هذه الوجوه مع ظاهر الآية فالوجه الثاني مخالف لظاهر الآية والوجوه الأخرى لا تنافي ظاهر الآية.
وأما السعداء، فقد ذكرت الآية الكريمة أنهم محكومون بنعيم الجنة، وأفصحت عن خلود السعداء في الجنة، وقد تقدم أن ذكر الدوام بدوام السموات والأرض يراد به التأبيد لا التوقيت.
ثم إن الآية الكريمة أتت أيضاً بالاستثناء المرتبط بمشيئة الله تعالى والذي يفهم منه أيضاً لو سرنا مع ظاهر الآية الكريمة أن الحكم بالخلود في الجنة ليس مطلقاً، وإنما هناك استثناء لبعض الحالات.
وقد وقع المفسرون في حيرة في فهم ذلك نظرا إلى ما قيل من الإجماع على أن من يحكم عليه بالجنة لن يخرج منها، ولهذا ذهبوا إلى لزوم تأويل الآية الكريمة، وحاولوا تصوير الاستثناء بصورة مخالفة لظاهر الآية الكريمة من جهات أخرى أو بصور غير متسقة.
ومن ذلك القول بأن المراد هو استثناء المدة السابقة على العذاب كالوقوف في المحشر. فهذا التفسير غير متسق، لأن الآية الكريمة حينما تحدثت عن الخلود تحدثت عنه بعد إتمام الحساب، فبعد أن يحاسب الناس ويحكم عليهم بالسعادة أو الشقاء يبدأ الجزاء الذي يكون جزاء خالداً، وعليه لا ينظر إلى مدة الحساب لأنها ليست من الجزاء في شيء.
وهناك قول آخر هو أن الله تعالى وإن ذكر في الآية الكريمة الاستثناء المرتبط بمشيئة الله عز وجل ، إلا أنه لا يريد بذلك وقوعه وإنما يريد إمكانه وإن كان لا يقع، بمعنى أن أهل الجنة محكوم عليهم بالخلود فيها إلا أن يشاء الله تعالى إخراجهم منها لكن لن يشاء ذلك وإنما ذكر الاستثناء بياناً لحقيقة أن إرادة الله تعالى هي التي تحكم، فله أن يفعل ما يريد وإن كان لا يفعل.
ولكن الحقيقة أن التعبير المذكور في الآية الكريمة لا يتسق مع هذا المعنى، فالقرآن الكريم في أعلى درجات البلاغة، وهو إنما يأتي بالتعابير بنحو بليغ يتسق تمام الاتساق مع المعنى المطلوب. ولو كان المراد بيان المعنى المشار إليه أي بيان أن إرادة الله تعالى هي التي تحكم لجائت الآية الكريمة بتعبير يتسق مع هذا المعنى لا أن يأتي التعبير بطريقة الاستثناء إذ لا يناسب بلاغة القرآن الكريم والقصد في المعنى إذ عليه لا يكون الاستثناء مقصودا بنفسه ولا يكون له وقع ما دام أنه مجرد فرض لا تحقق له. ولو رجعنا إلى الآية الكريمة التي قبلها التي ذكرت حكم الأشقياء لرأينا أنها لما ذكرت الاستثناء عقبته بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود : 107] فجائت لتؤكد مشيئة الله تعالى وإرادته في الحكم بالخلود في النار وكذلك في استثناء بعض الحالات فأكدت إرادة الله في تنفيذ الاستثناء.
وقد حاول بعض المفسرين جعل تفسيره هذا متسقا مع ظهور الآية الكريمة، فذكر أن الاستثناء في هذه الآية الكريمة عقب بقوله تعالى: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود : 108] ولازمه أن لا يكون الاستثناء مشيراً إلى تحقق الوقوع فإنه لا يلائم كون الجنة عطاء غير مقطوع، بل يشير إلى إمكان الوقوع بالمعنى المتقدم.
وهذه المحاولة خاطئة، لأن المطلوب في التفسير هو المحافظة على ظهور الآية الكريمة مهما أمكن، وما ذكره فيه خروج عن ظاهر الآية الكريمة وتأويل لها بما لا يناسب بلاغة التعبير وبيان القصد، بينما يمكن المحافظة على ظهور الآية وحمل الاستثناء على ظاهره حتى مع تعقيبه بقوله تعالى: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود : 108] بإرجاع هذا التعقيب على من حكم عليهم بالخلود في الجنة فيمن لا يلحقه الاستثناء فالجنة لمن لم يلحقه الاستثناء هي عطاء غير مجذوذ.
والذي أراه هو أن الاستثناء في الآية الكريمة حقيقي ولا مجال لتأويله، وإنما يفهم بوجهين -:
الأول: - أن يكون المقصود فيه المؤمنين الذين ارتكبوا ذنوباً لا تستحق الخلود في النار ولم يدركهم عفو الله تعالى فهؤلاء يحكم عليهم بالنار لأمد ثم ينقلون إلى الجنة خالدين فيها فيستثنى من مدة الخلود الزمن الذي يقضونه في النار جزاء على ذنوبهم.
الثاني: - إن الذي أوجب التعقيد على المفسرين والمصير إلى التأويل هو أن المرتكز في الأذهان أن الخلود في الجنة مطلق لا استثناء فيه، مع أنه يمكن القول إن الأصل في المحكوم عليهم بالخلود في الجنة هو ذلك لكن ننساق مع ظاهر الآية في إمكان الاستثناء حقيقة حتى لو كان نادراً أو افتراضي الوقوع نظير قوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} [الأعلى: 6-7] فإن ظاهر الآية أن الاستثناء حقيقي وإن كان وقوعه افتراضياً لكن إمكانه حقيقي. وعليه الاستثناء في الآية الكريمة التي نحن بصددها حقيقي الإمكان حتى لو كان افتراضي الوقوع وحتى لو لم نعلم كيفية وقوعه. ولعل حقيقية الاستثناء فيها تعليم شريف لأهل الجنة بأن وجودهم في الجنة يستدعي درجة من الانضباط أيضاً فيكون ذلك أدعى إلى أن لا ينقطعوا عن الله تعالى والخضوع له.
والله أعلم.
 

الفهرست || الأسئلة القرآنية

السابق

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com