الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

الأسئلة والاستفتاءات

جواب سؤال حول ما سمي بنسخ التلاوة

سماحة الشيخ حسين المؤيد حفظكم الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أضع أمام أنظار سماحتكم الآية التالية من سورة البقرة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 106].
فقد وردت في كتب التفسير آراء وأفكار مختلفة بصددها، مع تفسير معنى النسخ وأنواعه، ولكن ما استرعى انتباهي وأثار التعجب لدي هو ما ورد في بعض كتب التفسير من أن هناك آيات في القرآن رفعت تلاوتها مع بقاء حكمها ومنها ما تسمى (آية الرجم).
وبعض كتب التفسير تشير إلى آيات في القرآن رفعت تلاوتها وأحكامها على حد سواء ويقولون مثلاً إن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة ولكن رفعت آيات عديدة منها تلاوة وحكماً.
لا أدري مدى صحة ما ورد اعلاه وما هو التفسير الواقعي والدقيق للآية المذكورة من سورة البقرة، كل ذلك بانتظار رؤية وتحليل سماحتكم بشانه، جزاكم الله كل خير والسلام عليكم.


الجواب:
قسّم العلماء النسخ في القرآن الكريم إلى ثلاثة أنواع : -
1. نسخ الحكم فقط، وذلك بأن يكون هناك حكم تضمنته آية كريمة فينسخ هذا الحكم بعد فترة ويتم إبطاله وتبديله بحكم آخر. ومثال ذلك ما ورد في آية النجوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المجادلة : 12] وقد تم نسخ هذا الحكم بآية أخرى وهي قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة : 13].
وفي هذا القسم تبقى الآية التي نسخ حكمها كجزء من القرآن الكريم تتلى في ما يتلى من آياته وتكتب في ما بين الدفتين ولا يتم محوها والغاؤها من القرآن الكريم. والنسخ لا يتعلق بالآية نفسها وإنما يتعلق بمضمونها وهو الحكم الذي ورد في الآية الكريمة، فالألغاء هو إلغاء للحكم وليس إلغاء للآية نفسها.
2. نسخ التلاوة دون الحكم. وذلك بأن تكون هناك آية أنزلت فيما أوحي إلى النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وتلاها النبي فيما تلاه من القرآن الكريم، وهذه الآية مشتملة على حكم شرعي، إلاّ أن النسخ يطرأ على هذه الآية لا من حيث إلغاء حكمها وإنما من حيث إلغاء تلاوتها، فلا تتلى فيما يتلى من آيات القرآن ولا تكتب فيما يكتب في المصحف فتكون قد نسخت وألغيت من القرآن كآية من آياته إلا أن حكمها مستمر ويعتبر من أحكام الشريعة الإسلامية.
ومثلوا لذلك بما سموه آية الرجم ورووا في كتب الحديث أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: «إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعَقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله».
ويستفاد من هذه الرواية أن آية الرجم كانت مما أنزل وحياً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم نسخت تلاوتها وألغيت كجزء من آيات القرآن الكريم وإن بقي حكمها.
3. نسخ الحكم والتلاوة.
وذلك بان تكون قد نزلت آية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي متضمنة لحكم شرعي، ولكن بعد فترة يطرأ عليها النسخ فتلغى الآية ويلغى حكمها، فلا تكون جزء من آيات القرآن الكريم التي تتلى وتكتب في المصحف. ومثلوا لذلك بما روي عن عائشة عليها السلام أنها قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن».
وهذا المثال غير صحيح لأنه ليس في الرواية دلالة على أن المنسوخ قد نسخ حكماً وتلاوةً.
والكلام على هذه الأقسام يقع في جهتين: -
الأولى: - في إمكان النسخ، وهل هو ممكن وجائز بكل أقسامه؟
الثانية: في وقوع النسخ في كل هذه الأقسام الثلاثة.
أما الجهة الأولى، فالصحيح إمكان النسخ وجوازه فان رفع حكم بإنتهاء أمده أمر لا ضير فيه ولا تمنع عنه المقتضيات التشريعية بل توافقه وترجحه، ولا يدل على تناقض لدى المشرّع، ولا يدل على نقص لدى المشرع أو التشريع، إذ من الطبيعي جداً أن يقوم المشرع بتشريع حكم لمصلحة معينة ثم يرفعه بإنتهاء هذه المصلحة أو لأجل مانع معين أو مصلحة أقوى إقتضت ايقاف العمل بالحكم الأول.
كما أن إلغاء آية بعينها بعد إرتفاع حكمها أمر ممكن وجائز وهو أمر تابع لتقدير المشرّع.
وكذلك إلغاؤها دون إلغاء حكمها أمر جائز إذا اقتضته أسباب حكيمة لكنه يكون حينئذ من باب الإستثناءات، لأنه ليس من المقتضيات الطبيعية إلغاء الآية نفسها من المصحف إذا كان حكمها مستمراً وباقياً لكنه يندرج في باب الإستثناء.
وأما الجهة الثانية فالصحيح أنّ القسم الأول من النسخ وهو نسخ الحكم فقط واقع وثابت كما تقدم في آية النجوى. مضافاً إلى وقوع النسخ في الأحكام الشرعية أساساً كما في نسخ التوجه في الصلاة إلى القبلة الأولى بالصلاة إلى الكعبة المشرفة.
وأما القسمان الآخران فالصحيح عدم وقوعهما، توضيح ذلك في نقاط: -
1. إن الروايات التي رويت بشأن وقوع النسخ في التلاوة ما هي إلا أخبار آحاد ولا يمكن الأخذ بها فيما يتصل بالقرآن الكريم وآياته لأنّ ثبوت أي شيء يتصل بذلك لا بد أن يكون بمستوى التواتر القطعي وقد ثبت القرآن الكريم بما بين دفتيه بالتواتر القطعي.
2. لو كان هناك نسخ في التلاوة قد وقع لبينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكل مؤكد وبيانات مركزة تكون واضحة للجميع وضوحاً تاماً كي لا يختلط ما نسخ تلاوة بما هو الموجود في القرآن الكريم ولعرف ذلك بين المسلمين منذ الصدر الأول مع انه لا يوجد من ذلك عين ولا أثر ولم ترو رواية واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشأن ذلك ولم ينتشر ويعرف هذا الأمر بين المسلمين، ولم تذكر آية واحدة نسخت تلاوتها وعرف ذلك بين عموم المسلمين، وهذا دليل على أن ما ورد من أخبار آحاد بشأن نسخ التلاوة ساقط عن الحجية ومنطو على خلل كبير لا سيما وأن الأمر يتعلق بالقرآن الكريم الذي تتوفر كل الدواعي على ضبطه وحفظه وصيانته.
وهناك قاعدة عامة تقضي بأن القضايا والوقائع المهمة التي من شأنها لو وجدت أن تذيع بين الناس وتنتشر وتعرف بمستوى عالٍ من الوضوح والإنتشار، لا يمكن اثبات وجودها بخبر الواحد إذ المفروض تواترها فاذا لم تتواتر بما هو شأنها من الذيوع والوضوح دل ذلك على أن أخبار الآحاد التي تروي وقوعها منطوية على خلل يسقطها عن الحجية.
3. إنّ آية النسخ { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} [البَقَرَة: 106] لا تشمل نسخ التلاوة وإنما هي مختصة فقط بنسخ الحكم، وذلك بيّن من ملاحظة أسباب نزول الآية، فقد ورد في بيان أسباب نزول الآية الكريمة أن المشركين قالوا ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، فما هذا الكلام إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، فنزلت الآية رداً على المشركين الذين حاولوا التشهير بالتفاوت في الأحكام والمضامين فكانت آية النسخ ناظرة إلى ذلك ومختصة ببيان نسخ الأحكام.
كما ورد في أسباب نزول الآية ان بعضاً من أهل الكتاب ذكروا شيئاً من إعتراض المشركين المتقدم فنزلت الآية. والآية التي قبل آية النسخ تساعد في فهم آية النسخ وارتباطها بنسخ الأحكام وليس نسخ الألفاظ قال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة : 105] فهي تدل على كره المشركين وأهل الكتاب تنزيل مضمون وحكم فيه خير للمسلمين وعقبته آية النسخ { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} [البَقَرَة: 106] والمقصود بآية النسخ هو بيان حكمة ابطال الأحكام وليس إزالة الفاظ القرآن الكريم فلا علاقة لها بنسخ التلاوة بالمرة.
4. إن الروايات التي وردت بشأن نسخ تلاوة ما ادعي أنه كان من آيات الله تعالى، في مضمونها خلل واضح، فانّ ما ادعي نسخ تلاوته من آيات لا شبه له بأسلوب القرآن الكريم وبلاغة آياته. ففي الرواية المروية عن عمر رضي الله تعالى عنه وردَ : - «ثم أنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم».
حيث نلاحظ أن الجملة المدعى أنها آية لا تشابه بينها وبين آيات القرآن الكريم وطلاوتها ونلاحظ بُعد اللفظ عن البلاغة حيث يقول: «ان كفرا بكم» فهي تسمي مجرد الرغبة عن الآباء كفراً وحين ترمي الراغب عن أبيه بالكفر تقول: «كفر بكم» وهو ليس من الألفاظ البليغة.
كما أن آية الرجم المدعى نسخ تلاوتها رويت بوجوه منها «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» ومنها «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» ومنها «إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة».
فتجد التردد في ألفاظ ما يدعى أنه آية وتجد أن الأسلوب لا شبه له بأسلوب القرآن وآياته وتجد إستعمال لفظ «ألبتة» في غير محله.
وهكذا نصل إلى النتيجة القاضية بأن نسخ التلاوة لم يقع في القرآن الكريم أصلاً، وأن ما ورد بهذا المجال من أخبار آحاد لا حجية له ويجب طرحه وضربه عرض الجدار.
هذا وهناك روايات وردت في كتب الحديث وعلوم القرآن ربطها البعض بباب نسخ التلاوة لكنها في الحقيقة لا ربط لها بهذا الباب وإنما مفادها وقوع السقط في القرآن الكريم وطرو النقص عليه بسقوط جملة من آياته. ومن هذه الروايات -:
ما رواه عمرة عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.
وهذه الرواية تدل على أن الآية المدعى نزولها لم تنسخ تلاوتها وأنها كانت من القرآن حين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي غير موجودة مما يعني أنها أسقطت وطرأ النقص على كتاب الله والعياذ بالله.
ما أورده ابن أبي داود وابن الأنباري عن ابن شهاب قال: بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير فقتل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه ولم يعلم بعدهم ولم يكتب.
رواية أبي حرب بن الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمئة رجل قد قرأووا القرآن فقال: «أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم وأنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير اني قد حفظت منها: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة».
رواية عروة بن الزبير عن عائشة عليها السلام قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن».
وهذه روايات باطلة لا يجوز الأخذ بها بتاتاً لأن ما نزل وحياً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو ثابت بالتواتر القطعي وقد تعهد الله تعالى بحفظ كتابه من الزيادة والنقصان قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] فطرو النقيصة على القرآن محال. مضافاً إلى أن هذه الأخبار ما هي إلا أخبار آحاد ينافيها دليل طبيعة الأشياء وهي في مضامينها أيضاً غير مقبولة منطقياً فكيف يتصور ضياع جملة من القرآن لمجرد موت بعض حملته مع وجود وبقاء أعيان الصحابة وكبارهم من الفقهاء والعلماء الحافظين الحريصين على كتاب الله تعالى؟، وكيف تضيع آيات من سورة الأحزاب عند كتابة عثمان للمصاحف مع أن القرآن الكريم قد جمع كله قبل كتابة المصاحف وكان محفوظاً في المصحف وفي صدور كبار الصحابة؟، وكيف يعقل أن يضيع جزء من القرآن الكريم لمجرد أن أبا موسى الأشعري قد نسيه؟ فلمَ لم يحفظه غيره من الصحابة وكيف أن ما حفظه من آيات لم يعرفها سواه.؟ مضافاً إلى أن ما يذكره حسب الرواية من آيات لا يشبه أسلوب القرآن الكريم وبديع آياته.
إن هذه الروايات من الهزال والهشاشة بمكان ولا تصمد أمام التحقيق العلمي، وهي بلا شك من الروايات الموضوعة والمدسوسة والتي أخطأ بعض أئمة الحديث في إدراجها في كتب الحديث بدلاً من طرحها في سلة المهملات.
إن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطرأ عليه نقصان ولا زيادة وهو ثابت بالتواتر القطعي دون أدنى شبهة.

الفهرست || الأسئلة القرآنية

السابق

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com