الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور الأسئلة والاستفتاءات
ما هو المقصود بالإماتتين في الآية الكريمة في سورة غافر
السؤال:
أنا طبيب عراقي أقيم حالياً في البحرين بسبب الظروف العصيبة التى يمر بها العراق. أنا متابع لموقعكم ومن خلاله يزداد تقديري لأفكاركم وآرائكم إضافة إلى غزارة علمكم وثقافتكم في مختلف مجالات الشريعة والفقه وما تتصفون به من الاعتدال وعدم التحيز لأي طيف من الأطياف الدينية وهذا ما دفعني لأن أضع أمامكم هذا الاستفسار الذي لم أجد له إجابة دقيقة وواضحة وهو ما ورد في سورة غافر حيث يقول الكافرون: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر : 11] إلى آخر الآية الكريمة وفى سورة الدخان يقول عن المؤمنين: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان : 56] إلى آخر الآية الكريمة. التفسير الظاهر لهاتين الآيتين أن الكفار لهم موتتين في حين إن المؤمنين لهم موتة واحدة فقط. راجعت كثيراً من كتب التفسير وجميعها تشرح ما ورد في سورة غافر حول معنى الموتتين والاحياء مرتين على أنه يشمل الجميع الكفار والمؤمنين ولكن لماذا ورد التخصيص للمؤمنين فقط في سورة الدخان على أنهم لا يذوقون الموت فيها أي في الجنة إلا الموتة الأولى سابقاً وليس موتتين علماً إن الكفار كذلك لا يموتون في جهنم كما ورد في مكان آخر في القرآن الكريم. أرجو إجابتي جزاكم الله كل خير والسلام عليكم.
الجواب:
نشكر لك سؤالك الذكي ونقدر فطنتك اللماحة ونقول في الجواب -:
إنما حصل الالتباس المذكور في السؤال بناء على ملاحظة التفاسير المتداولة للآية الكريمة الواردة في سورة غافر والتي بلحاظها يكون لكل إنسان مؤمنا كان أو كافراً موتان وحياتان، وحينئذ تقع المشكلة في وجه تسمية الموت الذي تنتهي به حياة الإنسان المؤمن بإنتهاء أجله بالموتة الأولى. وهذه المشكلة تورطت بها التفاسير المطروحة للآية الكريمة. إلا أن هذه المشكلة ستعالج بناء على رؤية أخرى في فهم هذه الآية الكريمة حيث يمكن تقديم وجهين آخرين في تفسيرها -:
الوجه الأول: - إن المقصود بالإماتتين في هذه الآية الكريمة هو إماتة مادية وإماتة معنوية، أما الإماتة المادية فهي الموت الذي يعرض على الإنسان كل إنسان وينهي حياته الدنيوية ووجوده في عالم الدنيا، وأما الإماتة المعنوية فهي موت البصيرة الذي يؤدي إلى الكفر والضلال. وقد عبر بالموت عن فقدان البصيرة في القرآن الكريم في أكثر من آية كقوله تعالى في سورة الأنعام: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 122] فقد ذكر المفسرون أن المقصود بالآية هو من كان ميتا بالكفر فأحياه الله بالهدى والإيمان، وكذلك قوله تعالى في سورة الأنعام أيضا: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام : 36] أطلقت الآية الكريمة على الكفار الذين لا يصغون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسمعون سماع تفهم وإعتبار عنوان الموتى فجعلتهم كالموتى الذين لا يشعرون بشيء، فالمراد بالإماتتين هو الإماتة المعنوية والإماتة المادية، والمراد بالحياتين الحياة المادية في الدنيا والحياة في الأخرى التي أدت إلى تنبه الكافر ومواجهته للحقيقة وإذعانه للحق فهي حياته من الموت المعنوي. وإنما نسب الكفار موتهم المعنوي في الدنيا إلى الله تعالى فقالوا كما حكت الآية: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } [غَافر: 11] فقد يكون بلحاظ ما حكى الله تعالى في آية أخرى عن لسان المشركين {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [النحل : 35] أو بلحاظ أن الموت المعنوي مساوق للضلال فهم من حيث ضلوا عن الإيمان والحق فقد ماتوا معنويا فنسبوا ذلك إلى الله تعالى على وزان ما ورد في آيات عديدة منها {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر : 74] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد : 27].
وهذا وجه جديد لم أطلع على قائل به تبدّى لي في تفسير الآية الكريمة أرجو أن يكون فهما يؤتاه الرجل في كتاب الله عز وجل ، وعلى هذا التفسير تحل المشكلة حيث أن الموتة الأولى 00هي الموتة المادية وهي شاملة للجميع بلا استثناء، وأما الكفار فهم بحكم الأموات في الحياة الدنيا بلحاظ كفرهم وضلالهم فتكون لهم موتة معنوية.
الوجه الثاني: - أن تكون الآية الكريمة في سورة غافر ناظرة بالفعل إلى مجموعة من الكافرين تحققت لهم في الحياة الدنيا إماتتان، بمعنى أن الله تعالى أماتهم الموتة الأولى كسائر البشر ثم أحياهم بعد ذلك ثم أماتهم، ومن هنا ذكروا في الآخرة ما جرى عليهم في الدنيا من الإماتة مرتين والإحياء مرتين ولم يتطرقوا إلى الإحياء الثالث وهو البعث يوم القيامة لأنه ليس هو الذي أقيمت به الحجة عليهم قبل الحساب وإنما هو الذي يجازون به على سيئاتهم فاقتصروا على ما جرى عليهم في الحياة الدنيا حيث أقيمت علهم الحجة.
ولا يستبعد هذا الوجه كأحد الوجوه المتصورة في تفسير الآية الكريمة، فإن تحقق إحيائين وإماتتين في الحياة الدنيا أمر واقع حكى لنا القرآن الكريم حصوله للبعض، من ذلك ما ورد في سورة البقرة من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة : 243] وما ورد في سورة البقرة أيضاً من قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 259] ومن هذا القبيل الموتى الذين أحياهم عيسى عليه السلام بإذن الله عز وجل ، فكل هؤلاء تحققت لهم إماتتان واحياءان في الحياة الدنيا، فليس من البعيد أن تكون هذه الآية الكريمة ناظرة إلى قضية حصلت أو تحصل لمجموعة من الكافرين الذين تحقق لهم ذلك إقامة للحجة. وهذا غير القول بالرجعة الذي ذهب إليه مشهور متكلمي ومتحدثي الشيعة الإمامية فإن القول بالرجعة مورد للمناقشة والملاحظة عندي وأراه قولاً باطلاً. والتعبير في الآية الكريمة بالذين كفروا وإن كان ظاهره مطلقاً شاملاً للجميع لكن المقصود به جماعة معينة وليس الكل بناء على هذا الوجه من التفسير ومثل هذا حاصل في غير مورد من آيات الذكر الحكيم حيث يعبر عن مجموعة معينة بتعبير عام. وتحقق إماتتين وإحيائين في الحياة الدنيا سواء لبعض الكفار كما في هذه الآية أو لبعض المؤمنين كالذين أحياهم عيسى بإذن الله تعالى أو الذين أشارت إليهم الآيتان المتقدمتان إنما هو استثناء لا يثلم الحالة العامة التي جرت عليها سنة الله تعالى في خلقه من تحقق موت واحد في الحياة الدنيا للناس جميعاً، فالاستثناء محدود بحالات خاصة تشذ عن الحالة العامة لغاية معينة في الحالة الخاصة التي اقتضت الاستثناء. وعلى هذا الوجه في تفسير الآية الكريمة يرتفع الإلتباس كما هو واضح. هذا والوجوه المتداولة التي ذكرها المفسرون والتي أوجبت الالتباس هي مجرد أقوال لم يرد بشأنها نص صحيح وهي مورد للمناقشة والإشكال والله أعلم.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد