الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

الأسئلة والاستفتاءات

تفسير الآية (32 و33) من سورة فاطر

السؤال:
أعرض على سماحتكم موضوعاً آخر اختلفت فيه التفسيرات وهو غير واضح بالنسبة لي، وهو ما يتعلق بما ورد في سورة فاطر الآيتين 32 و33 حيث يذكر المفسرون ان {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر : 32] هم أمة محمد.
بعض المفسرين يقولون إن الظالم لنفسه هو من يقرأ القرآن ولكن لا يعمل بموجبه وإن المقتصد هو من يقرأ القرآن ويعمل بموجبه بعض الأوقات، أما السابق فهو الذي يعمل بموجب القرآن كل الاوقات.
مفسرون آخرون يقولون إن الظالم لنفسه هو الذي سيئاته أكثر من حسناته وإن المقتصد هو الذي حسناته مساوية لسيئاته أما السابق فهو الذي حسناته أكثر من سيئاته.
فى جميع الحالات فان كل هذه المجاميع سيدخلون الجنة كما يجمع أغلب المفسرين، وهنا يكون التساؤل حول كيف يدخل الجنة من تكون سيئاته أكثر من حسناته عند وفاته دون أن يتوب عنها ليغفر له وكما نعلم من القرآن الكريم إن أساس الدخول إلى الجنة هو أن يكون ميزان حسناته أكبر من ميزان سيئاته لأن مصير الإنسان سيتحدد بموجب ميزان أعماله كما ورد في سورة المؤمنون الآيتين 102 و103. وهل إن ذلك يتعلق مثلاً بنوع سيئاته وأن لا يكون كافراً لأن هذا سيفتح المجال أمام المشككين من أن يكفي أن يكون الشخص غير مشرك ويعمل المعاصي وسيكون مصيره إلى الجنة على حسب التفسير الظاهري لمضمون هاتين الآيتين.
ما هو رأي سماحتكم حول هذا الموضوع جزاكم الله كل خير.


الجواب:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [فاطر : 32] الظاهر أن المراد بالكتاب هو القرآن الكريم وهو الذي ذكرته الآية السابقة {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر : 31] و«أورثنا» أي حكمنا بتوريث الكتاب أو المراد به «نورثه»، وقد صرحت الآية الكريمة بأنّ الذين يرثون الكتاب هم المصطفون من عباد الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر : 32] وهم الذين وقع عليهم الإختيار والإجتباء. وقد إختلفت التفاسير في تحديدهم، والذي أفهمه من الآية الكريمة أن الآية إما أن تكون ناظرة إلى العموم أو الخصوص، فإن كانت ناظرة إلى العموم فالمقصود بالمصطفين هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم الأمة الوسط التي قال عنها الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة : 143] وهذا نوع إصطفاء وإجتباء وإختيار بلا شك. وفي هذا السياق يأتي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله» وهذا النص واضح في وراثة الأمة للكتاب أي القرآن الكريم، فهو تعبير عن توريث الكتاب.
وقد قسمت الآية الكريمة الأمة التي ترث الكتاب إلى ثلاثة أقسام -:
الأول: - ظالم لنفسه، ومن الواضح أن هذا العنوان يراد به المذنب العاصي الذي لم يكن بمستوى الإصطفاء ولم ينهض بتكاليف وراثة الكتاب فلم يكن حاملاً له عاملاً به.
الثاني: - المقتصد وهو الذي آمن وعمل صالحاً لكنه لم يكن متفوقاً أو متميزاً، وإنما كان عادياً في طاعاته وفي حمله للأمانة.
الثالث: - السابق بالخيرات، وهو الذي حث السير في طاعة الله عز وجل وفي حمله للأمانة فكان متفوقاً مميزاً في هذا المضمار فكان على مستوى الإصطفاء والإجتباء والإختيار ونهض متميزاً بأعباء التوريث وإستحقاقاته.
وأما ذيل الآية الكريمة وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر : 32] فإنه بحسب فهمي للآية الكريمة يعود إلى السابق بالخيرات وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، ومناسبات الحكم والموضوع وذلك لأن عبارة {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر : 32] لو أريد بها الإصطفاء لوراثة الكتاب لما تأخرت ولكانت قد جائت بعد قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر : 32] فهذا هو المكان المناسب لها في الكلام البليغ، فتأخرها يدلل على أنها مرتبطة بالسابق بالخيرات بإذن الله. ثم إنه لو كان المراد بالثواب المذكور في الآية {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة : 72] شموله للجميع فهذا معناه أن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق للخيرات هم سواسية في الدرجة والأجر وهو بعيد مما يدلل على إختصاص الثواب المذكور بالسابق بالخيرات. مضافاً إلى إنه لما كان الفضل الكبير مرتبطاً به حسب البيان الذي ذكرنا دلّ السياق على أن الثواب المذكور في الآية التالية متعلق به أيضاً. وقد عبر بلفظ (ذلك) الذي يستعمل للبعيد من باب علو المنزلة وسموها، وأما التعبير في الآية التالية بصيغة الجمع {يَدْخُلُونَهَا} [الرعد : 23] فهو لا يدل على إرادة الأقسام وإنما جاء بياناً لكون السابق للخيرات جماعة وليس فرداً، أو باعتباركون السابق بالخيرات جماعة جاء التعبير بصيغة الجمع. فذيل الآية الكريمة يذكر ثواب السابق بالخيرات وليس ناظراً إلى جزاء الظالم لنفسه أو المقتصد.
فإن قيل: - إن قوله تعالى على لسان هؤلاء المكرمين يوم القيامة {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر : 34] يفيد شمول الآية للظالم لنفسه وللمقتصد إذ أذهب الله تعالى عنهم يوم القيامة حزن الذنوب وغفر لهم.
قلنا: - هذه الآية الكريمة لا دلالة لها على الشمول، إذ أن المراد بها مع إختصاص الثواب في الآية الكريمة السابقة بالسابق بالخيرات هو أن السابقين بالخيرات يحمدون الله تعالى يوم القيامة إذ أذهب عنهم الحزن وَهوَ الهمّ وهو أحد معاني الحزن لغةً حيث كانوا يعملون لله عز وجل وهم خائفون، فالمؤمن الصحيح يبقى بين الخوف والرجاء ويحمل بين جنبيه همّ الآخرة كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون : 60] وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام : 51] وقوله تعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان : 7] وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات : 40-41] وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة : 16] فالمؤمن مهما أتى بالأعمال الصالحة فهو بين الخوف والرجاء، ولذا فإن الملائكة تطمئن الصالحين ليذهب عنهم الخوف {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت : 30] .
والله تعالى ينفي عن عباده الصالحين الخوف والحزن وبهذا نطقت آيات كثيرة بصيغة {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس : 62].
أو يكون المراد أنهم قد ذهب عنهم كل ما كان يحزنهم من معاناة ومتاعب في طريق طاعتهم لله عز وجل وخدمة دينه.
هذا مضافاً إلى أن الإنسان مهما علت درجته فهو في معرض الزلة والهفوة والمعصية لكنه يتداركها بالتوبة، فيحمد الله تعالى أن غفر له زلاته، وأذهب عنه حزنه عليها.
هذا كله إن كانت الآية ناظرة إلى العموم.
وأما إن كانت ناظرة إلى الخصوص فالظاهر أنّ المقصود بالمصطفين هم إما العلماء وهم ورثة الأنبياء، وقد إجتباهم الله تعالى لوراثة الكتاب لينهضوا بحمله وحفظه وتعليمه. وهم على الأقسام الثلاثة التي ذكرتها الآية الكريمة ويختص الثواب المذكور في الآية الكريمة بالقسم الثالث حسبما هو ظاهر من سياق الآية الكريمة ومناسبات الحكم والموضوع كما تقدم.
وإما القرن الأول أو الجيل الأول من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين قال عنهم القرآن الكريم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110] فهؤلاء الذين ورثوا الكتاب بعد أن اسدل الستار على النبوة فلا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لكن الجيل الأول اجتباه الله تعالى لوراثة الكتاب، وقسمتهم الآية الكريمة إلى الأقسام المتقدمة والمراد بها هو ذات ما تقدم ويختص القسم الثالث بالثواب المذكور في الآية الكريمة حسبما هو ظاهر من سياق الآية ومناسبات الحكم والموضوع ولا ينافي وجود الظالم لنفسه بينهم ما ورد في بيان صلاحهم لأن المقصود به صلاح المجموع.
وقد ورد في الأدبيات الشيعية سواءً عند الشيعة الزيدية أو الشيعة الإمامية تفسير آخر للآية الكريمة يرتكز على نقطتين -:
الأولى: - إن الآية الكريمة ليست ناظرة إلى العموم فلا يقصد بها عموم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما هي ناظرة إلى فئة خاصة.
الثانية: - إن الفئة الخاصة المصطفاة هي أهل البيت عليهم السلام فهم ورثة الكتاب.
فبالنسبة إلى الزيدية قال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي المتوفى سنة «247هـ»: - «وهذه الآية لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصةً، فالظالم لنفسه الذي يقترف من الذنوب ما يقترف الناس والمقتصد الرجل الصالح الذي يعبد الله في منزله والسابق بالخيرات الشاهر سيفه الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر».
وقال الإمام الهادي إلى الحق في كتابه القياس «فأخبر بما ذكرنا من اصطفائهم على الخلق ثمّ ميّزهم فذكر منهم الظالم لنفسه بإتباعه لهوى قلبه وميله إلى لذته وذكر منهم المقتصد في عمله المؤدي إلى الله فرضه المقيم لشرائع دينه المتبع لرضا ربه المؤثر لطاعته ثم ذكر السابق منهم بالخيرات المقيمين لدعائم البركات وهم الأئمة الظاهرون المجاهدون السابقون القائمون بحق الله المنابذون لأعداء الله المنفذون لأحكام الله الراضون لرضاه الساخطون لسخطه».
وأما الإمامية فقد رووا روايات كثيرة في هذا المقام تفيد أن الآية الكريمة خاصة بأهل البيت عليهم السلام لكنها اختلفت في تحديدهم فبعضهم يقول هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآخر يقول هم ولد فاطمة عليها السلام والثالث يقول هم العترة الطاهرة، وتنوعت هذه الروايات في بيان المقصود بالظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات ففي بعضها الظالم لنفسه هو من إستوت حسناته وسيئاته والمقتصد هو العابد لله حتى يأتيه اليقين والسابق بالخيرات هو من دعا إلى سبيل ربه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وفي بعضها إن الظالم لنفسه هو المختلط بالناس والمقتصد هو العابد والسابق هو الشاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه، وفي بعض آخر الظالم لنفسه فيه ما جاء في التائبين وهو مغفور له والمقتصد صائم بالنهار قائم بالليل والسابق بالخيرات هم علي والحسن والحسين والشهيد من آل البيت. وفي بعض آخر الظالم لنفسه من لم يعرف حق الإمام والمقتصد من عرفه والسابق للخيرات هو الإمام. وفي بعض آخر الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى والمقتصد هو العارف بحق الإمام والسابق هو الإمام.
وأمام التحقيق العلمي الموضوعي لا تصمد هذه الروايات والأقوال إذ تسجل عليها الملاحظات التالية -:
الملاحظة الأولى: - الإختلاف الذي يصل إلى حد التضارب سواءً على مستوى تحديد من هو المقصود بالآية الكريمة من أهل البيت، أو على مستوى تحديد المراد بالظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات. فهل المصطفون هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كعنوان وسيع؟ أو ولد فاطمة عليها السلام؟ أو العترة الطاهرة؟ ومن الواضح أن هناك تفاوتاً بين هذه العناوين. وكذلك الإختلاف في تحديد الأقسام الثلاثة.
الملاحظة الثانية: - إنّ الروايات والأقوال المتقدمة سواء عند الزيدية أو الإمامية تذكر المراد بالآية الكريمة على نحو الجزم لا كوجه من الوجوه المحتملة في الآية أو كمصداق من مصاديقها، وهي إذ تذكر ذلك لا تستند إلى أصل من القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، بل من الأساس لا يوجد أصل من الكتاب والسنة لهذا التفسير، فليس في القرآن ما يشهد لهذا الجزم لا على مستوى الآية نفسها ولا على مستوى آيات أخرى يمكن الإستعانة بها من باب أن القرآن يفسر بعضه بعضاً. فعلى مستوى الآية نفسها ليس في الآية ما يشير أو يدلل على إرادة أهل البيت فيها، وما ورد من روايات تقدمت الإشارة إليها تفسر الآية الكريمة بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر سوى إنه لو كان المراد بالآية عموم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكان معنى ذلك أن كل الأمة في الجنة وهو لازم لا مجال للألتزام به لأصطدامه مع حقائق من الكتاب والسنة تدل على ان العاصي من هذه الامة يعاقب بالنار ولو لأمد، وعليه يكون المراد بالآية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأن دخولهم جميعاً للجنة أمر مفروغ منه.
وهذا الإستدلال مردود بما يلي -:
أولاً: - في ضوء الفهم الذي ذكرناه للآية الكريمة، فإنها لا تدل على دخول الأقسام الثلاثة للجنة، وإنما ظاهرها أن الثواب الوارد فيها خاص بالسابق بالخيرات. وعليه لو قيل إن المراد بالآية هو عموم الأمة لم يلزم من ذلك اللازم المذكور.
ثانياً: - إن المستفاد من الكتاب والسنة أن الجزاء ثابت لجميع الناس فلا إمتياز لفئة على أخرى، فالعاصي يعاقب وإن عاد نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل قد تشدّد عليه العقوبة لعدم إحترامه لإنتمائه الذي يجب أن يجعله أشد تمسكاً بأوامر الله تعالى ونواهيه. وعليه فالظالم لنفسه من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد مقتاً عند الله تعالى وهو كغيره معاقب على ظلمه.
وأما على مستوى الآيات الأخرى التي قد تشهد على إرادة آل البيت في هذه الآية الكريمة، فليس هناك آية مرتبطة بهذا الموضوع يمكن أن تتخذ شاهداً على تفسير هذه الآية بخصوص آل البيت. نعم قد يستدل بقوله تعالى في سورة الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 26] فقد نصّت هذه الآية الكريمة على جعل الكتاب في ذرية إبراهيم عليه السلام وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم من ذرية إبراهيم عليه السلام .
لكن الإستدلال بهذه الآية خاطيء -:
أولاً: - من المعلوم أن الكتاب لم يكن في ذرية نوح عليه السلام على مر الأجيال المتعاقبة مما يحدد ظهور الآية الكريمة في إرادة الذرية القريبة عصراَ من نوح، فيثلم ظهور الآية الكريمة في الإطلاق وَيجب الإقتصار على القدر المتيقن من الآية الكريمة وهو ذرية إبراهيم في عصره أو العصر القريب منه.
ثانياً: - إن المنساق عرفاً من عبارة { ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعَام: 84] هو الذرية القريبة ما لم تقم قرينة على إرادة التعميم والإمتداد الزماني وهذه القرينة غير موجودة.
ثالثاً: - إن الآية الكريمة التي تلت قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} [الأنعَام: 42] تدلل على أن المراد بذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام هو الذرية القريبة عصراً قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة : 46] والضمير في { آثَارِهِم} [المَائدة: 46] يعود على ذرية نوح وإبراهيم، فهذه الذرية بعد أن كان فيها الكتاب عقبت بالرسل ثم بعيسى الذي جاء بالإنجيل. فملاحظة الآية التالية تدلل على أن المقصود بالذرية ليس الإمتداد الزماني لها عبر الأجيال جيلاً بعد جيل، وإنما هي القريبة عصراً من نوح وإبراهيم عليهما السلام .
وأما من السنة الشريفة فلم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان للآية الكريمة يذكر إرادة أهل البيت بها، ولم تذكر الأقوال والروايات المنقولة عن أئمة الزيدية والإمامية في تفسير هذه الآية الكريمة شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الصدد. فإذا ضممنا إلى ذلك إختلاف هذه الأقوال والروايات وتضاربها كان ذلك مؤشراً على ضعفها وفقدان أصل لها من الكتاب والسنة. وعليه فهي إما موضوعة على لسان أهل البيت عليهم السلام، أو تعبر عن إجتهاد في فهم الآية الكريمة لا موجب للألتزام به ما دام غير مستند إلى شاهد يدعمه، أو يكون فيه ما يخالف ظاهر الآية الكريمة.
وربما يحاوَل الإستدلال على أن هذه الآية الكريمة هي في أهل البيت خاصةً بأن التعبير بالإصطفاء والتوريث في هذه الآية الكريمة لا يتناسب الاّ مع من له المكانة السامية المتسقة وهذا الإصطفاء والتوريث وهو ما لا ينطبق إلا على أهل البيت عليهم السلام الذين وردت في شأنهم فضائل بهذا المستوى كحديث السفينة وغيره.
لكن هذه المحاولة لا يمكن المساعدة عليها إذ هي محجوجة بكتاب الله عز وجل . قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأعراف : 169] وقال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى : 14] فهاتان الآيتان تذمان جماعة ممن ورثت الكتاب.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 26] فهي تصف كثيراً من ذرية إبراهيم بالفسق مع أن آية أخرى قالت: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران : 33-34] فلم يكن هناك تناف بين الإصطفاء والذم فكل منهما يرتبط بجهة. فلا يدل التعبير بالإصطفاء والتوريث على إختصاص ذلك بآل البيت عليهم السلام .
الملاحظة الثالثة: - إن بعض هذه الروايات يستبطن خللاً واضحاً كرواية سورة بن كليب عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال في هذه الآية: السابق بالخيرات الإمام فهي في ولد علي وفاطمة عليهما السلام .
والإشكال هو أن قوله عليه السلام حسب الرواية «فهي في ولد علي وفاطمة عليهما السلام » هل يقصد به كل الآية، بمعنى أن الإصطفاء والتوريث هو لولد علي وفاطمة عليهما السلام أو أن الاقسام الثلاثة هي في ولد علي وفاطمة عليهما السلام ؟ فإن كان الأول فمعنى ذلك أن علياً وفاطمة لم يقع عليهما الإصطفاء وإنما وقع مباشرة على ولدهما وهذا مضمون غريب لا يلتزم به أحد من آل البيت. وعلى الثاني لا ينطبق عنوان السابق بالخيرات على علي وفاطمة عليهما السلام لأن المفروض أن النظر في الأقسام الثلاثة إلى خصوص ولدهما عليهما السلام وهذا أيضاً مضمون غريب لا يلتزم به أحد من آل البيت. وإن قيل إن الآية الكريمة في جملتها غير ناظرة إلى علي وفاطمة عليهما السلام لا في الإصطفاء والتوريث ولا في الأقسام الثلاثة مع أنه لا شك في كونهما عليهما السلام من المصطفين وممن ورث الكتاب إلا أن الآية سكتت عن ذلك وكان نظرها إلى خصوص أولادهما عليهما السلام . قلنا: إن هذا أيضاً مضمون غريب لم يلتزم به أحد من آل البيت. وهكذا يتضح أن مضمون الحديث يستبطن خللاً وهو ما يوجب إسقاط الرواية. ومثل هذه الرواية في الإشكال رواية أحمد بن عمر قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} [فاطر : 32] فقال ولد فاطمة عليها السلام .
الملاحظة الرابعة: - إننا في ضوء الفهم الذي ذكرناه للآية الكريمة لم نرتكب أي تكلف أو تمحل في تحديد المراد بالأقسام الثلاثة، أعني الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات، وإنما جرينا في تحديدها مجرى الفهم العرفي في تحديد المفهوم وحافظنا على انطباق المفهوم من حيث نفسه ومن حيث سعته، بينما على التفسير الزيدي أو الإمامي للآية الكريمة نجد أن هناك تكلفاً أو تمحلاً في تحديد الأقسام الثلاثة سواءً على مستوى المفهوم أو على مستوى المصداق سواءً فسر الظالم لنفسه بمن إستوت سيئاته وحسناته أو هو المختلط بالناس أو هو من لم يعرف حق الإمام أو الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى، وسواء فسر المقتصد بالعابد لله حتى يأتيه اليقين أو الصائم بالنهار القائم بالليل أو من عرف حق الإمام، وسواء فسر السابق بالخيرات بالإمام أوالداعي إلى سبيل ربه الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أو الشاهر لسيفه. إذ من الواضح أن معاني الظالم والمقتصد والسابق بالخيرات على مستوى المفاهيم ليست ما ذكر بنحو التحديد، كما أنّ تخصيصها بهذهِ المصاديق ليس له وجه ولا شاهد فيدخل في باب التكلف أو التمحل، فلا يجري مجرى الفهم العرفي في تحديد المفاهيم وفي انطباقها من حيث نفسها أو سعتها.
وهكذا يتضح أن التفسير الزيدي والإمامي للآية الكريمة لا يمكن المساعدة عليه.
فالصحيح ما ذكرناه وبالله التوفيق.

الفهرست || الأسئلة القرآنية

السابق

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com