الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور الأسئلة والاستفتاءات
حول الآية (16) من سورة الإسراء
سماحة الشيخ حسين المؤيد حفظكم الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لدي استفسار يتعلق بالآية التالية من سورة الإسراء أود عرضه أمام أنظار سماحتكم:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء : 16] .
وجدت تفسيرات عديدة ومختلفة لها. مثلاً كلمة (أمرنا) لها التفسيرات التالية:
- طلبنا منهم عمل المعاصي والسيئات (وهذا غير وارد اطلاقاً لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء والمنكر).
- طلبنا منهم الطاعة والايمان فعصوا
- أمرنا هنا تعنى كثرنا
- أمرنا تعني جعلناهم أمراء وحكام
إضافة إلى ذلك فان المعنى العام للآية غير واضح لدى. لماذا تكون الدعوة للمترفين فقط وليس للكل وإذا حصل الفسوق والعصيان من المترفين فلماذا يهلك الجميع وهل هذه الآية تخص قرية بعينها أم هي عامة.
الجواب:
ذهب جمع من المفسرين إلى أن المقصود بقوله تعالى: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [الإسراء : 16] هو أن الله تعالى أمرهم بطاعته لكنهم تمردوا على أمره ولم يمتثلوا وفسقوا فحق عليهم العذاب.
ومن الواضح أنه بناء على هذا التفسير لا توجد مشكلة في فهم الآية الكريمة، فالله تعالى لا يعذب الناس حتى يقيم عليهم الحجة، وحتى يظهر العصيان منهم في العمل، فلا يعذبهم بمجرد سبق علمه بأنهم سيعصون أوامره عز وجل فإذا أقام عليهم الحجة وجائهم أمره فعصوه يكون قد تحقق منهم العصيان عمليا في الواقع الخارجي فيحق عليهم العذاب والإهلاك.
وقد اعترض على ذلك باعتراضين:-
الإعتراض الأول: - ما ذكره الزمخشري في الكشاف، وحاصله هو أن المأمور به في الآية الكريمة محذوف، وحذف ما لا دليل عليه غير جائز لأنه مخل بهدف البيان، وفي مثل ذلك لا بد أن يكون المحذوف مقدراً حسب ما فرع على الأمر، لأنه إنما حذف إعتماداً على إمكان معرفته من خلال تقديره حسب ما فرع على الأمر، ولذلك لو قلت مثلاً: أمرته فقرأ، كان معنى كلامك أنك أمرته بالقراءة فقرأ، فعرف المأمور به المحذوف من خلال تقديره حسب ما فرع على الأمر بدلالة الإقتضاء حسب مصطلح أصول الفقه. وحينئذ يكون معنى قوله تعالى: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [الإسراء : 16] هو أمرناهم بالفسق فيها، إذ يقدر المأمور به حسب ما فرع على الأمر. وليس ذلك بمعنى إرادة المعنى الحقيقي أي أن الله تعالى أمرهم بالفسق حقيقة، لإستحالة ذلك، أما الأمر التشريعي فلوضوح أن الله تعالى لا يمكن أن يأمر الناس بالفسق، لأن الفسق مبغوض لله تعالى وفيه مفسدة للناس فلا يتعلق به الأمر التشريعي وقد قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف : 28]. وأما الأمر التكويني فيستحيل تعلقه بالفسق، لأن معنى ذلك صدور الفسق من الناس جبراً لا اختياراً، وحينئذ لا يستحقون العذاب على ما صدر منهم بغير إرادتهم واختيارهم. وعليه فالتعبير بالأمر في الآية الكريمة هو تعبير مجازي المقصود به هو أن الله تعالى يغدق نعمه على المترفين فيستغلونها في العصيان والإنحراف فيحق عليهم العذاب. إذن لما كان إغداق النعم عليهم مقتضياً لفسقهم جاء التعبير بالأمر على سبيل العناية والتجوز.
الإعتراض الثاني: - إذا كان المقصود بالأمر هو الأمر بالطاعة فلماذا خص به المترفون دون سائر طبقات الناس، فالأمر بالطاعة بطبيعة الحال هو أمر عام يشمل الجميع، فمن قصره على المترفين نعلم أن المراد به ليس الأمر بالطاعة، وإنما الأمر بالفسق لكن بالمعنى المجازي المتقدم ذكره.
وقد أشكل على الإعتراض الأول بأن قولك: أمرته فعصاني لا يدل على أن المأمور به هو المعصية، بل فيه دلالة على أن المأمور به شيء آخر تحقق عصيانه.
وأجيب عن الإشكال بأن في قولك: أمرته فعصاني، تكون المعصية مناقضة للأمر فلا تكون مأمورا بها فلا تقدر في مقام تقدير المأمور به المحذوف، فالمتكلم بجملة (أمرته فعصاني) يريد بيان حصول ما ناقض أمره، وأن أمره لم يمتثل، فلا يصح أن يقدر المحذوف حسب ما فرع على الأمر، لأنه خلاف ما يريد المتكلم بيانه. فهذا المثال يتميز عن قولك: أمرته فقرأ، وقوله تعالى: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [الإسراء : 16] .
وقد اعترض على هذا الجواب بأن قوله تعالى: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [الإسراء : 16] هو نظير جملة (أمرته فعصاني) من حيث أن التعبير بالفسق كالتعبير بالمعصية، فكما أن المعصية هي ضد المأمور به، فالفسق كذلك هو ضد المأمور به فلا يمكن أن يقدر محذوفاً.
والحقيقة أن الفارق موجود وهو فارق دقيق، ففي جملة (أمرته فعصاني) تكون الجملة مسوقة لبيان تمرد المخاطب بالأمر على الأمر وعصيانه له، فلا يصح أن تكون المعصية مقدرا لمحذوف، لأنه خلاف ما سيقت الجملة لبيانه، فيكون ذلك قرينة على امتناع تقديرها، بينما في قوله تعالى: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [الإسراء : 16] لا يدل بالضرورة على أنه مسوق لبيان تمردهم على الأمر بالطاعة كي يمتنع تقدير الفسق على أنه المأمور به المحذوف، إذ يمكن أن تكون الآية مسوقة لبيان تهيئة مقتضيات الفسق للمترفين قبل إهلاكهم فيصح التقدير حينئذٍ.
والجواب الفني على أصل القضية هو أن القضية تدور بين فرضيتين: إما بقاء كلمة (أمرنا) على معناها الحقيقي، فحينئذ يلزم أن لا يصح تقدير المأمور به المحذوف حسب ما فرع على الأمر، لما تقدم من استحالة الأمر بالفسق سواء أكان أمراً تشريعياً أو أمراً تكوينياً، فلابد حينئذ أن يكون مفاد الآية الكريمة أن الله تعالى يأمر المترفين بطاعته فيتمردون ويفسقون. وإما حمل الأمر على المجاز فيتعين التقدير حسب ما فرع على الأمر بدلالة الإقتضاء.
والقاعدة تقضي ببقاء كلمة (أمرنا) على معناها الحقيقي عملاً بأصالة الحقيقة ما لم تقم قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، وعليه لا يصح التقدير حسب ما فرع على الأمر، فلا بد أن يكون معنى الآية الكريمة: أمرناهم بالطاعة ففسقوا. لكن سيأتي بيان وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي.
وأما الإعتراض الثاني فأجيب عنه بأن قصر الأمر على المترفين باعتبارهم السادة المتبوعين وغيرهم أتباع لهم، وحكم التابع تابع لحكم المتبوع.
وهذا الجواب غير صحيح، فمن جهة يجب أن يكون الأمر بالطاعة عاما شاملاً للجميع لإقامة الحجة على الجميع ما دام أن الهلاك شامل للجميع وليس خاصا بالمترفين، ومن جهة ثانية ليس بالضرورة أن يكون غير المترفين تبعا لهم، فربما كان الفقراء معارضين للمترفين بل ناقمين عليهم، وربما تمرد البعض منهم على المترفين وهو حاصل في كثير من المجتمعات، فلا مبرر لقصر الأمر بالطاعة على المترفين.
وهذا الجواب هو المفتاح للجواب على الإعتراض الأول، فقصر الأمر على المترفين يمنع من بقائه على المعنى الحقيقي، ويستوجب حمله على المجاز، ويترتب على ذلك أن يكون تقدير المأمور به المحذوف على حسب ما فرع على الأمر أي أن المحذوف هو الفسق، لكن يراد بالأمر بالفسق معنى مجازي لامتناع الأمر بالفسق حقيقة كما تقدم.
وبعد ذلك نأتي إلى المفهوم القرآني المقتنص من الآية الكريمة، فالذي أفهمه من الآية الكريمة هو أنها تبين قاعدة عامة هي من السنن الإجتماعية التي وضعها الله تعالى في حياة البشر، فالمجتمع الذي يوظف سبل الرخاء والإزدهار والرقي والثروة - التي يمده الله تعالى بها - في طريق الإنحراف عن دين الله عز وجل وفي طريق المعصية فإن مآله إلى الدمار والهلاك والإنهيار بحكم السنن الإجتماعية التي تسير وفقها المجتمعات البشرية، وهكذا تنهار حضارات وتسقط إمبراطوريات. فنطاق الآية الكريمة أوسع من قضية الهلاك الذي تتعرض له بعض المجتمعات من خلال العذاب الإلهي الذي يحيق بهم من السماء كما حصل لعاد وثمود مثلا، وإنما الآية الكريمة عامة جارية في كل المجتمعات بحسب مقتضيات السنن والقوانين التي وضعها الله تعالى لحركة المجتمعات. والله عز وجل يمد الجميع بعطائه قال تعالى في السياق نفسه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء : 17-19] ، وهكذا فالمجتمع الذي لا ينصاع لطاعة الله عز وجل يضع نفسه في معرض الدمار والإنهيار، فإن الله تعالى يمده من عطائه، لكن هذا المجتمع سيوظف عطاء الله في سبل منحرفة عن طاعة الله، وسيكون عطاء الله له بحكم التوظيف المنحرف لهذا العطاء سبباً لدماره وانهياره بحكم ما يسببه الإنحراف من تناقضات لها تداعيات خطيرة في المجتمع وعلى كل الأصعدة وسيتحمل المجتمع نفسه مسؤولية وأعباء انحرافه وما يترتب عليه من آثار، وهذه سنة من السنن التي رسمها الله للبشرية في حركتها الإجتماعية. وأما ذكر المترفين في الآية الكريمة فباعتبار أنهم الطبقة الإجتماعية التي توظف وسائل الدنيا والثروة في الإنحراف لا سيما وأن الترف يفضي إلى الطغيان {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق : 7] ، فانحراف المترفين وطغيانهم وقد سيطروا على مجتمعهم بما يملكونه من وسائل السيطرة سيؤدي إلى دمار المجتمع كله وانهياره ولو على المدى الطويل إذا لم يضرب المجتمع على أيدي المترفين الطغاة وتركهم في طغيانهم يعمهون.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد