لن يأتي احد بجديد عندما يتحدث في تعقيدات الوضع العراقي
وتشابكاته .ولن يأتي بالجديد أيضا وهو يسبر أغوار الخانق الذي آلت إليه العملية
السياسية لأسباب تعود إلى خارطتها التي صممت فوق المنضدة الواسعة لإستراتيجية
الاحتلال وما أدى إليه غياب الرؤية الوطنية المنسجمة في مواجهة الاحتلال
ومخططاته .بالإضافة إلى تغييب الحلقات الفاعلة التي بإمكانها صياغة وصناعة تلك
الرؤية ونقلها فيما بعد إلى ساحة الفعل المنسجم مع التطلعات الوطنية الكبرى
والتي يمثل التحرير وتحقيق السيادة الكاملة أول أهدافها .
وحتى لا يؤدي الإسهاب في أمر كهذا إلى حالة من الغرق في التفاصيل لا بد من
النظر إلى الواجهة الأخرى من المشهد إذن .حيث الجهد الوطني الذي طوى زمنا قارب
الأربع سنوات كان فيه الوطن نهبا لشراسة الاحتلال بكل ما لهذه الشراسة من صور
قبيحة وممارسات تتقاطع مع الأعراف والقوانين الدولية والمجتمعية عبرت عنها
المخططات والبرامج الجهنمية لنهب الثروات وتحطيم أبنية الدولة وأعمدتها وتفخيخ
الأمن المجتمعي ودفعه نحو طريق اللاعودة عبر أعمال القتل الهمجي التي تقاسمت
أشلاء الأبرياء بعناوين الطائفية والمناطقية والعرقية والاثنية على الرغم من كل
العصي السحرية الموعودة وأقراص التسكين المصدرة إلى شعب العراق بمختلف الأحجام
والألوان والتي لم ينفع أي منها في تخليص هذا الشعب مما حاق به من الويل
والثبور وعظائم الأمور.
فما هي الواجهة الأخرى من المشهد ؟ وكيف تبدو اليوم بعد الغياب الذي أوجده واقع
الاحتلال وفرضته طبيعة التناقضات في الرؤية والمعالجة الوطنية وبعد التغييب
الذي لم يركن قائده ولا لحظة واحدة في استحضار المعنى والواقع المعاصر للمواجهة
وصولا إلى انجاز المشروع الوطني القادر على تحدي البنود الظالمة لمسميات الأمر
الواقع والنزول إلى ساحة التلاقي المصيري بأسلحة لا قبل للاحتلال بمواجهتها أو
تدجينها أو الالتفاف عليها .
في هذه الواجهة وعلى مسرحها المزدحم بمشاريع الرومانسية الثورية وطروحات الترف
ألتنظيري والفكري تلخص المعنى الحقيقي لإنقاذ العراق في مشروع الميثاق الوطني
الذي بلوره آية الله الشيخ حسين المؤيد والذي اختصر فيه عمر المحنة التي جاءت
بعد الاحتلال مستشرفا الأبعاد الدالة على مسافة العودة في ركب المنتصر.تلك
المسافة التي بدت كالسراب في أعين الكثير ممن أعيتهم الضربة الموجعة للاحتلال .
لقد قطع ميثاق الشيخ المؤيد حتى أيامنا هذه ما يربو على الثلاثة أشهر وقد جدّ
في أمر الميثاق كل جديد بفعل ما حمله من حراك عقائدي ومبدئي استوعب محنة الوطن
وقدم البديل لخلاصه ومثّل تحريضا فريدا ومعاصرا لمفردات الصراع التي لم تترك
أدنى فاصلة بينها وبين هموم العراقيين وتطلعاتهم إلى الحاضر المثالي والغد
الأمثل وقد عبر الطيف الواسع منهم كواجهات وطنية ومؤسسات أو كحلقات فاعلة في
عمق المجتمع ,كأساتذة ومثقفين وأدباء وطنيين إلى غير ذلك عن ثقتهم بهذا الأمل
المشرق والجديد في حاضر العراق المثقل بمآسي الاحتلال وتداعياته .
لا نريد المرور هنا على السيل اللا منقطع من الرفد الوطني والقومي والإسلامي
لمشروع الميثاق .كما لا نريد استعراضا أحاديا للتعاطي الإعلامي مع المشروع.ذلك
لأن ما يكفيه تقييما إنه أصبح البوصلة التي من خلالها يرى المراقب أين هي
الحيادية في الموقف وأين هو الانحياز إلى الحق الوطني كفلسفة او قانون .
لقد قدم المشروع عراقا بلا اتجاهات أو أبعاد ..فلا شمال ولا شرق ولا غرب ولا
جنوب في هذا الوطن ..فالعراق هو العراق الواحد كما رسم في خارطة الشيخ المؤيد .
وهنا الفيصل في الأمر ..فالرجل على الرغم من مرجعيته ومدرسته الفقهية المعروفة
لم يتقدم بميثاقه طبقا لهذه الخاصية .كما انه لم يتناقض معها .وهو تعامل فريد
في الجمع والمجانسة وإلغاء التناقض وتضييق الفجوة في وصف أدق.
وسماحته على الرغم من نزوعه الإسلامي الوحدوي لم يقدم هذا المشروع باعتباره
سفينة خلاص لمسلمي العراق دون سواهم .فلقد كان عادلا منصفا في أن يرى الجميع في
عين لا رمد أو قذى فيها مثلما هو صواب منطقه وصدق الوطنية فيه وهو ينتزع
المفهوم الحقيقي للنصر من مخاض المواجهة والمجابهة.ولمن يعشق الغور في مفاهيم
السياسة وقواميسها عليه أن يدقق كثيرا في معاني (ضرورة إقامة دولة المؤسسات
والقانون ,ووجوب أن تكون الكفاءة والنزاهة هي المعيار في تولي المناصب القيادية
والسيادية في الدولة التي يجب أن يكون عليها العراق الجديد).وهاتان حلقتان
مضيئتان من قلادة ميثاق الشيخ المؤيد وقد دوناهما هنا كوصف عام دونما تقييد
حرفي للنص .فضلا عما ضمته البنود والفقرات التي حفل بها هذا الكنز الوطني
الكبير من حلقات متسقة ومنسجمة شكلت بمجموعها صورة لعراق المستقبل .
وهنا لابد من التنويه إلى أمر ذي أهمية بالغة يشير بإختصار إلى تركيبة الشعب
العراقي من الناحية الديمغرافية .هذه التركيبة التي عرف عنها تاريخيا إنها لا
تقدم الولاء المطلق بسهولة أبدا بحكم بيئتها ونزعة التمرد على المألوف لديها
.لكن العشيرة تنوب هنا في التعبير عن هذا الولاء وخاصة للدين ولرموزه مع ما
اكتنف الوصف في بعض صوره من ممارسات لاواعية بحكم ظروف موضوعية تداخلت فها
مرامي السياسة مع المصالح الضيقة التي حاولت استغلال هذه العفوية الصادقة
والنقية لتحقيق أهداف لم تعد خافية على الجميع وقد أدت تلك الأهداف فيما أدت
إليه إلى التعتيم على رموز عقائدية حقيقية نذرت نفسها لتحقيق قوانين السماء
باعتبارها ممثلة لخلافة الله على أرضه .
هذه العفوية البيضاء وهذا الولاء ألصميمي للدين والعشيرة وعلى ما أشرنا إليه من
سحابات غطت بعضا من ضياء الشمس الأزلية هنا أو هناك .في الأمس البعيد أو القريب
أو اليوم .نرى كل ذلك على خير. لأن الصحوة هي المارد الذي لابد له من مغادرة
القمقم .
فهذه عشائر العراق الواحد وبعد صدور الميثاق الوطني للشيخ المؤيد تعاهد في
مواقف لها وتساند في أخر .وتعلن الولاء والتأييد بلا انقطاع وبمظاهر يغلب عليها
التحدي واثبات الذات ..انه تجحفل نوعي لمعسكر الحق الذي أدرك عبر العشيرة بأن
وراء الأكمة ما وراءها ولا بد من أن يعلن هذا
المعسكر موقفه ويدوي بصرخته .
صحيح إن المرحلة التي أعقبت الاحتلال شهدت صدور مشاريع وعهود وبرامج وأسماء
ومسميات أرادت من تلك( الزفة ) ما أرادت غير أن الزفة تلك سرعان ما تبخرت كأنها
الزوبعة التي ذهبت إلى قعر فنجان .لكن الواقع الذي يدعمه الزمن القريب وتوثقه
الأحداث والمواقف وقد وثقته بالفعل قد أثبت بأن ميثاق الشيخ المؤيد هو الابقى
لأنه الأقدر في تسليط الضوء الحقيقي على المعنى الواسع لفلسفة الصراع .وهو
الأقدر كذلك على أن يحقق النصر المؤكد لشعبه شعب العراق في معركته التاريخية
والمصيرية الحاسمة .
كثيرون من قرأوا الميثاق وفسروه وتوقفوا عنده كثيرا قالوا بأنه الوعد الذي لا
خلاص للعراق من دونه ,وكثيرون كثيرون من جمعوا بين الميثاق ورجل الميثاق .
أما أنا فلا إجابة لدي أمام هذا التلازم ...وصدقا فأنا
لا أملك الإجابة .
السابق