الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور المحاضرات
عقبات حركة النهضة العربية والإسلامية (*)تحدثنا مراراً وعبر العديد من المحاضرات عن المشروع النهضوي العربي والإسلامي، وذكرنا أن هذا المشروع ضرورة من ضرورات الأمة وقدرها المصيري، ولا يمكن لأمتنا الإسلامية عموماً والعربية على وجه الخصوص لا يمكن لها أن تأخذ مكانتها الطبيعية وأن تدفع عن نفسها الأخطار المحدقة بها إلا إذا تحركت باتجاه النهضة، وكل تقاعس عن هذا المشروع يؤدي إلى إخراج أمتنا عن دائرة التاريخ فضلاً عن تهميشها.
في هذه المحاضرة نحاول أن نتكلم على بعض العقبات التي تقف كحجر عثرة في طريق النهضة، فهذه العقبات طالما كبلت أمتنا بسلاسل أعاقتها وبالتالي كادت أن تحطمها. ولا تزال هذه العقبات فاعلة بدرجات متفاوتة وبنحو وآخر، لا زالت لها فاعليتها في تحطيم هذه الأمة وفي إعاقتها عن سيرها الطبيعي، ولذا لا بد من إيجاد حالة من الوعي حول هذه العقبات ولابد أن يتحول هذا الوعي إلى حالة عامة، وأن يتحول إلى ظاهرة تتركز في عقول الناس وتتركز في نفوسهم ليكون هذا الوعي هو الخطوة التي تليها خطوات نحو إزالة تلك العقبات.
في الواقع هناك إتجاه لدى قطاع من المفكرين ومن السياسيين في أمتنا الإسلامية بعرضها العريض يرفض ما يسمى بنظرية المؤامرة ويدعي أن ما تشهده أمتنا من تراجعات ومن انتكاسات ليس ناتجاً عن مؤامرة تحاك ضدها، وإنما هو واقع الأمة المريض وأوضاعها المتردية ما يؤدي بها إلى ما هي عليه، فيرفض نظرية المؤامرة.
ونحن لا ننكر تلك الأوضاع المتردية وذلك الواقع المريض فإنه أمر غير قابل للإنكار. ولكن من يريد لنا أن نتغافل أو ننكر نظرية المؤامرة هو في الواقع كالذي يريدنا أن نفكر بمنهج خلق العالم عن طريق الصدفة، فكما أن دعوى خلق العالم عن طريق الصدفة التي طالما كررها الملحدون لا تعبر إلا عن قضية سطحية تعتبر من تفاهات الفكر البشري، كذلك إنكار المؤامرة على هذه الأمة ما هو إلا تسطيح للفكر وإغفال لواقع له شواهده وعليه أدلته. فما يحصل من أوضاعنا المتردية هو مزيج من مؤامرة حيكت ولا تزال تحاك ضد أمتنا وضد تقدمها وضد أن تأخذ مكانها الطبيعي في العالم وعلى الساحة الدولية، ومزيج من واقع مريض تعاني منه أمتنا داخلياً. وقد استطاع المتآمرون أن يتخذوا من تلك الأوضاع المتردية ثغرة للنفوذ إلى هذه الأمة واللعب على حبال متنوعة لإبقاء هذه الأوضاع المتردية وتعميقها وترسيخها. وما من مقطع زماني استطاعت فيه هذه الأمة أن تجتاز بدرجة ما، حتى لو كانت محدودة ونسبية أن تجتاز واقعها السيئ إلا ووجدت أوضاعاً تفرض على الأمة لترجعها إلى المربع الأول، وهذا يدل دلالة واضحة على أن هناك أياد تعبث بمصير الأمة وتهزأ بتاريخها وتلعب بواقعها، وهناك محاولات حثيثة من أجل زرع الإحباط في النفوس، لأن الهزيمة الأساسية إنما هي هزيمة داخلية ومن يستطيع أن يهزم العدو من الداخل، أن يهزمه نفسياً فقد انتصر عليه من غير سلاح ومن غير معركة ودون أن يفتح معه معركة، ولهذا محاولات زرع الإحباط واليأس في هذه الأمة تستهدف هزيمتها داخلياً، فإذا هزمت هذه الأمة داخلياً، نفسياً، أعانت عدوها على التسلط عليها وعلى اللعب بأقدارها.
ولهذا نحن نسعى في مشروعنا النهضوي إلى أن نعيد للأمة ثقتها بنفسها وبهويتها الحضارية والثقافية وأن نفتح أمامها أبواباً للأمل وأن نريها في آخر النفق المظلم، بصيص نور يمكن أن يحركها لتخطو خطوات حقيقية نحو النهضة، لأن هذه الخطوات هي الهدف الذي نرى أنه قدرها في هذه المرحلة. ونحن لا نريد أن نغرق في أحلام اليقظة لكي نصور للأمة وكأن أمامها مستقبلاً واعداً قريباً، فإن كل ذلك الواقع المريض الذي تركته هذه الأمة خلفها في ماضيها البعيد والقريب مضافاً إلى طريق المستقبل الشائك لا يبشر بأفق واعد قريب، ولكنه لا يعني أن نسد الأبواب أمام النهضة وإنما لا بد أن نتحرك، كما يقولون مسيرة ألف ميل تبدأ من خطوة واحدة، فلا بد لهذه الأمة أن تتحرك ولا بد أن تبقي في نفسها حيويتها، فالأمة كالكائن الحي، كل كائن حي إذا لم يقف مدافعاً أمام ما يحدق به من خطر، إذا لم يدافع ويدخل في صراع من أجل البقاء ومن أجل الوجود، فإنه سينتهي ويموت ويتلاشى، فحفظ الأمة ككيان، حفظ مصيرها وحفظ مستقبل أجيالها يتوقف على أن تكون الأمة حية وأن يبقى فيها نبض الحياة، أن يبقى فيها نبض الحياة لكي تواصل مسيرتها بشجاعة معنوية أولاً وببسالة في صراعها مع تناقضاتها الداخلية ومع أعدائها الخارجيين، حينئذ يمكن لها أن تحتفظ بوجودها لكي يكون هو المرحلة الأولى والتي تعقبها مرحلة التطوير والانتعاش في طريق النهضة. وعلى هذا الأساس لا بد أن نتعرف على العقبات التي تقف حجر عثرة أمام نهضة الأمة.
من الطبيعي أن هناك مجموعة وهناك قائمة طويلة لهذه العقبات، ولكننا لا نريد أن ندخل في تفاصيل هذه القائمة وإنما نكتفي بالمحطات الأساسية التي تستجمع كل محطة منها مجموعة من التفاصيل.
من هذه العقبات محاولات تفتيت الأمة ثقافياً، العالم الإسلامي شهد تفتيتاً سياسياً لأن هذا العالم كان لا بد له أن يكون كياناً واحداً، أن يكون المسلمون أمة واحدة لها كيانها السياسي الواحد، ولكن أوضاعها الداخلية ومؤامرات العدو ضدها إستطاعت أن تفتت الأمة سياسياً، وبالتالي عاد ذلك الكيان إلى وحدات سياسية جغرافية متعددة، كل وحدة أصبحت تفكر في مصالحها في داخل حدودها، تفكر بمصالحها المحدودة، وبالتالي يمكن أن يقع التناحر بين هذه الكيانات السياسية المتعددة. فكانت هناك محاولات للتفتيت السياسي في هذه الأمة ونجحت هذه المحاولات.
علاوة على ذلك التفتيت السياسي لم يكتف العدو بتفتيت الأمة سياسياً حتى بدأ ينهج نهج التفتيت الثقافي، فالعالم الإسلامي والعالم العربي له وحدة ثقافية أضفاها عليه الإسلام، إن هذه الأمة أساساً أمة صنعها الإسلام وأوجدها ككيان وكأمة، وبالتالي الإسلام هو الذي أضفى على هذه الأمة هويتها الثقافية، فهناك محاولات لتفتيت الأمة ثقافياً.
وهذا التفتيت الثقافي ينهج طريقين: -
الطريق الأول: التأكيد على الطابع القومي الذي يتنافى ولا ينسجم مع المبدأ الإسلامي العام، لأن القومية أساساً كإطار لا تنافي الإسلام، والتوجه القومي كإطار يحتاج إلى محتوى ثقافي لا يتنافى مع الإسلام، فيمكن للقومية أن تتخذ من الإسلام محتواها الثقافي والحضاري فيقع التلاحم بين إحتفاظ الأمة واعتزازها بقوميتها وبين تمسكها بالإسلام، فلا توجد في الحقيقة اثنينية تستدعي التقاطع بين القومية والإسلام، ولكن محاولات التفتيت تؤكد الطابع القومي الذي يريد أن يركز جانب القومية فقط بعيداً عن الإسلام وأن يكون هذا القومي بعيداً عن محتواه الطبيعي وهو الإسلام. وهذا ما حصل في العالم الإسلامي سواءً للعرب أو لغير العرب، وهذا النهج خبيث سعى إليه الاستعمار قديماً ولا زال يؤكد عليه. وهناك نهج أخر وهو جر الأمة، جر كل المجتمع إلى تلك الثقافات القديمة التي تجاوزتها الأمة عبر الإسلام، فيأتي مثلاً إلى المصريين ليؤصل لهم انتمائهم السابق على عروبتهم والسابق على إسلامهم، ويأتي إلى الفرس ليؤكد لهم انتمائهم الثقافي السابق على إسلامهم، وهكذا يعمل مع شعوب المغرب العربي يؤكد لها انتمائها البربري السابق على عروبتها وإسلامها، فيستهدف من ذلك التفتيت الثقافي للأمة بحيث يعيش الإنسان في صراع بين ثقافتين وقد يعيش غربة ثقافية في بلاده، وقد يعيش حالة اللاانتماء فلا هو ينتمي إلى الإسلام ولا هو ينتمي إلى تلك الثقافة التي تجاوزها تاريخه وتاريخ أمته. فهذه محاولات للتفتيت الثقافي وهي أخطر من التفتيت السياسي، لأن التفتيت السياسي إذا كانت الأمة قادرة على حفظ وحدتها الثقافية سوف يقل ضرره إذ يبقى التواصل الثقافي بين شعوب هذه الأمة على الرغم من الحدود الجغرافية التي تعيشها، ويبقى الانتماء الثقافي الواحد هو العنصر الفعال الذي يدعو إلى تماسك الأمة. بينما إذا فتتت هذه الأمة ثقافياً مضافاً إلى تفتيتها السياسي كان ذلك أنجح طريق للعدو ليقضي به على حاضر الأمة ومستقبلها ويحولها إلى شعوب متضاربة متناقضة لا يجمعها جامع ولا يربطها رابط، إذ ما الذي يربط العراقي الذي يرجع إلى ما قبل الإسلام ويتمسك بثقافة ما قبل الإسلام بالمصري الذي يتمسك بثقافة ما قبل الإسلام؟، إنما يشد العراقي إلى المصري، إلى المغربي هو هويته الثقافية الواحدة باعتباره ينتمي إلى شيء إسمه العروبة، وينتمي إلى شيء أهم وأعظم وأوسع إسمه الإسلام، هذا الإسلام الذي خلق الأخوة بين الشعوب المتضادة في ثقافاتها، المتضادة في مصالحها، التي لم يكن بينها فيما سبق، أي انسجام روحي وأي ارتباط وانتماء معنوي واحد، الإسلام هو الذي أوجد ذلك الرباط الوثيق وهو الذي أوجد هذا الانتماء الواحد، فهناك محاولات لتفتيت الأمة ثقافياً وهذه المحاولات ليست مجرد أفكار وليست مجرد خطط وإنما هي برامج تطبق على أرض الواقع في كثير من بلاد العالم الإسلامي.
هذه هي الحقيقة الأولى ولهذا نحن نقول إذا كانت الدولة القطرية أمراً واقعاً يصعب أو يستحيل تجاوزه في الأفق المنظور فيجب استثمار الوجوه الإيجابية التي تفتح الجسور وتجعل الجسور مفتوحة بين هذه الشعوب التي قطعت بسكين الاستعمار، قطع هذا الجسد الواحد من خلال الحدود الجغرافية ومن خلال الدول القطرية، نستطيع أن نتجاوز هذه الإشكالية مع وجود هذه الحدود فتنفتح شعوب العالم الإسلامي على بعضها البعض من خلال وحدة الانتماء ومن خلال الهوية الثقافية الواحدة، فالهوية الثقافية والانتماء الثقافي والمعنوي هو أيضاً أمر واقع يريد لنا الأعداء أن نتجاوزه، لكن يجب أن لا نتجاوزه بل يجب أن نؤكد عليه ويجب أن تبقى كل الجسور ثقافياً مفتوحة بين شعوب العالم الإسلامي، بل ندعو إلى ما هو أكثر من ذلك بأن توضع برامج على المدى القريب والبعيد لإيجاد نوع من التماسك الاجتماعي بين هذه الشعوب لتتحول إلى أُسر متشابكة فيتزوج العراقي مثلاً من أي من البلاد العربية ويتزوج السوري المغربية ويتزوج المغربي المصرية وهكذا، نريد للعالم العربي والإسلامي أن يتحول إلى علاقات أُسرية متشابكة، يصعب مع وجود هذه العلاقات يصعب جداً أن يتجاوز معه واقعه الواحد، ولن تبقى تلك الحدود الجغرافية متماسكة أمام وحدة هذه الشعوب، لا بد أن تكون هناك تسهيلات للتواصل بدلاً من أن تفرض حواجز السفر والانتقال على أبناء هذه الأمة من دولة إلى دولة، لا بد أن يتم الانتقال عبر الهوية ومن خلال الهوية بدلاً من المطالبة بجوازات السفر وبالتأشيرات، فهذه خطوات لا بد أن تخطوها دول العالم العربي والإسلامي لترسيخ حالة التشابك والتماسك بين شعوب هذا العالم وأبناء هذا العالم الذين لهم انتماؤهم الواحد. هذا فضلاً عن ما ندعو إليه من السوق الإسلامية العربية المشتركة، ندعو إلى مجلس، إلى برلمان عربي واحد، وليست أوروبا بأحسن من العرب أو المسلمين، أوروبا لها ثقافات مختلفة، دولها لها ثقافات مختلفة وعاشت تاريخياً مراحل حرجة جداً من الصراعات فيما بينها، ولها مصالح متناقضة وانتماءاتها الثقافية متعددة، لكنها استطاعت أن تقيم لأنفسها اتحاداً أوروبياً يبرز الآن أو هو مرشح للبروز كقطب دولي مقابل القطب الأمريكي، فلماذا لا يتحول عالمنا العربي وعالمنا الإسلامي إلى شيء من هذا القبيل مع وجود هذه الحدود الجغرافية التي يستحيل في الواقع، في الأفق المنظور أن نتجاوزها، ولكن يمكننا أن نمر عليها، يعني لا يمكن تجاوزها بمعنى إلغائها ولكن يمكننا التقليل من فاعلية هذه الحدود في تمزيق الأمة من خلال البرامج السياسية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تتمكن شعوب العالم العربي والإسلامي من خلالها من أن تحافظ على وحدة الانتماء.
أيضاً من العقبات التي توضع في طريق المشروع النهضوي إيجاد التضارب بين التيارات الفاعلة في الأمة سواءً تلك التيارات الفكرية أو تلك التيارات السياسية. على مدى قرن ونصف برزت في الأمة تيارات سياسية وفكرية متعددة، الكثير منها وإن أخطأ في الأسلوب أو في تحديد الهدف لكنه كان مخلصاً لهذه الأمة. هناك محاولات كانت ولا تزال لإيجاد التضارب بين هذه التيارات، وهذه المحاولات كلفت الأمة الكثير. مثلاً برز في مطلع القرن العشرين تياران أساسيان هما التيار القومي والتيار الإسلامي وكِلا التيارين كانا يتمتعان بالإخلاص لهذه الأمة إلا ما شذ وندر. فتوجهات التيار القومي وتوجهات التيار الإسلامي كانت في الغالب توجهات مخلصة، ولكن ما الذي حصل؟، الذي حصل هو التضارب بين التيارين، كانت أجواء القطيعة والخصومة هي الأجواء السائدة بين هذين التيارين وأثرت تأثيراً بالغاً حسب موقع هذين التيارين في السلطة والمعارضة، حينما يتولى التيار القومي السلطة يبدأ بسحق التيار الإسلامي وإذا تولى التيار الإسلامي السلطة يبدأ بسحق التيار القومي دون أن ينشأ حوار جاد ينطلق من حُسن النوايا لإزالة التشنج بين التيارين ومحاولة إيجاد مساحة مشتركة وهي مساحة واسعة حسب الواقع بين هذين التيارين مقدمة لعمل مشترك لمصلحة الأمة، فأوجدوا تضارباً بين هذين التيارين على صعيد الفكر وعلى صعيد السياسة، ولا تزال هذه المحاولات مستمرة في إيجاد التضارب بين التيارات الحقيقية في داخل الأمة سواءً أكانت تيارات فكرية أو تيارات سياسية، وهذه خطة خبيثة تعين عليها أوضاعنا المتردية والأجواء التي تتحرك فيها تيارات الأمة، فإنها تعين الأعداء على تنفيذ هذه الخطة، وعادة ما يتحرك الأعداء من وراء الستار وخلف الكواليس كما يقولون ومن خلال طابور خامس ومن خلال الأيدي التي تنتسب إليهم والتي تتستر بمجموعة من الأقنعة تخفي من خلالها ذلك الانتماء إلى المستعمر، ذلك الانتماء إلى العدو، وقد تظهر بمظهر المتصلب في القومية أو المتصلب في الإسلام ولكنها في الواقع تمارس دورا مرسوما لها من قبل أجهزة معادية لهذه الأمة.
ومن هذه العقبات إيجاد القطيعة بين المؤسسة الدينية والمؤسسة الثقافية الحداثية، هاتان المؤسستان الرائدتان في الأمة، الأمة إنما تنقاد لعلمائها ومفكريها، والمحاولات كانت ولا تزال على قدم وساق لإيجاد تشنج واحتقان بين هاتين المؤسستين وبين هذين التيارين، خلق حالات من سوء الظن من كل للآخر وتسفيه كل للآخر واستخفاف كل بالآخر وبالتالي تنعكس هذه الأمور السلبية على القطاعات الواسعة في الأمة فتكون نظرة أولئك الذين يتعصبون للمؤسسة الدينية سلبية فيقفون موقفاً سلبياً من المفكرين الحداثيين، والمؤسسة الثقافية الحداثية، وأولئك الذين يتمسكون بالمؤسسة الثقافية الحداثية يتعصبون سلباً ضد المؤسسة الدينية وكل ما ينتمي إليها دون تفريق، وهذا يعرقل مسيرة النهضة في الأمة. لا بد من تجسير العلاقة بين الحوزة والجامعة ولا بد من تجسير العلاقة بين المؤسسة الدينية والمؤسسة الثقافية ولا بد من تجسير العلاقة بين علماء الدين والمفكرين والمثقفين من أي اتجاهات كانوا، لأن هذه القطيعة وأجواء التشنج والاحتقان تدخل الأمة في صراع وهمي يشغلها ويمكّن العدو من ابتزازها ويفتح ثغرة للدخول عليها وبالتالي يحاول من خلال ذلك التشنج بين المؤسسة الثقافية والمؤسسة الدينية أن يمتص قدرات الأمة، ويحاول استقطاب رموز إما من المؤسسة الثقافية أو من المؤسسة الدينية بحيث يفضلون العمل مع الأجنبي ويفضلون العمل مع العدو على أن يعملوا مع بعضهم البعض، وهذا أيضاً ما يخلقه الاستعمار سياسياً في داخل الأمة وبين التيارات السياسية في الأمة، يحاول أن يخلق بينهم حالة من الضغينة والخصومة بالشكل الذي يفضل معه التيار المعين أن يعمل مع المستعمر على أن ينسق ويتلاحم ويعمل مع تيار سياسي داخلي في الأمة.
من هذه العقبات الدق على الوتر الطائفي والمذهبي. تمزيق الأمة مذهبياً وإشغالها بالصراع الطائفي والمذهبي، إن التعددية المذهبية أمر طبيعي وصحي حتى لو لم يكن صحيحاً ولكنه صحي لأن الناس يتفاوتون في أفكارهم، في مستوياتهم، في قدرتهم على الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي تتنوع حينئذ الاجتهادات والقراءات، فالتعددية المذهبية شيء طبيعي، من الطبيعي والمنطقي أن تكون هناك تعددية في المجتمع. ولكن الشيء غير الطبيعي هو أن تتحول هذه التعددية إلى فتنة وإلى انقسام في داخل الجسم الواحد والمجتمع الواحد وهذا ما يؤكد عليه الأعداء، دائماً يحاولون إشغال الأمة بصراع مذهبي، بصراع طائفي يجعل كل طائفة من هذه الطوائف تفضل أيضاً أن تستعين وأن ترتمي في أحضان الأجنبي، أحضان العدو على أن تنسق وأن تتلاحم مع الطائفة الأخرى التي تشترك معها في دين واحد، وهكذا يدخل الاستعمار، يدخل العدو على الخط، وحينما يدخل على الخط يفتح ثغرة كبيرة. ولهذا نجد كلما أرادت هذه الأمة أن تتقدم، كلما قطعت خطوات نحو التقدم فجأة يظهر صراع، فجأة تطُل على هذه الأمة شخصيات وأصوات تدعو إلى التمزيق، تدعو إلى الفرقة وتدق على وتر الصراع المذهبي، وقد يصل الأمر بالأمة إلى أن يكفر بعضها بعضاً، وهذه سياسة خبيثة. والآن الأمة تعاني من هذه القضية. المرحلة التي يعيشها العالم الإسلامي كله، هذه المرحلة هي مرحلة يراد للعالم الإسلامي فيها أن يتعرض إلى هزات متتالية لأن هناك خططا لتغيير الخارطة السياسية في المنطقة، وهناك خطط لرسم وضع جديد للعالم كله ولعالمنا العربي والإسلامي لقرن جديد، هذا القرن الواحد والعشرون يراد له أن يكون قرناً يختلف في خريطته السياسية والثقافية عن القرن العشرين وبالتالي ستتعرض المنطقة في رأيي وسيتعرض العالم الإسلامي والعربي على مدى عشر سنين إلى هزات متتالية.
يتكلمون عن الاستقرار ولكنه كلام كاذب يطبقون فيه نصيحة ذلك السياسي الذي كان ينصح بأن يتم التعامل على طريقة افتح إشارة السيارة وكأنك تتجه إلى اليمين ثم اتجه إلى اليسار، تشرشل بهذه الطريقة كان يعمل. فما يقال الآن من الدعوة إلى الحوار، الدعوة إلى نبذ التطرف، الدعوة إلى الاستقرار، الدعوة إلى الديمقراطية بحسب تقييمنا نعتقد أن هذا كله هراء ومجرد ذر للرماد في العيون، فهم لا يريدون لهذه المنطقة على مدى عشر سنين قادمة لا يريدون لها لا أن تستقر سياسياً ولا أن تستقر ثقافياً ولا أن تستقر اجتماعياً إلا في ضوء المعايير التي يرسمونها هم، في ضوء الخارطة السياسية الجديدة إذا استجابت لها الأمة وفي ضوء المشروع الثقافي الجديد إذا استجابت له الأمة، نعم حينئذ ستشهد الأمة وضعاً جديداً يستقر على مشروع خارجي، ولكن إذا وجدوا في هذه الأمة أن خلايا المناعة تتحرك لترفض مثل هذه المشاريع فالوضع مرشح لهزات متتالية تمنع من إيجاد أي استقرار في النفوس فضلاً عن الأوضاع. ولذا لا بد أن نحذر من أي فتنة يمكن أن تخلق على الصعيد الطائفي أو المذهبي لأن هذا ما هو يراد لهذه الأمة من أجل أن يحكم فيها المشروع الجديد، أن ينظر كل مذهب إلى الآخر على أنه أسوء من ذلك الشخص أو من ذلك الاتجاه الذي لا يشترك معه في الإسلام. فهذه مؤامرة مستمرة وأعتقد أنها ستستمر، فلا بد لهذه الأمة أن تفوّت الفرصة على أعدائها وأن لا تسمح بضرب التعايش المذهبي بين مذاهبها وطوائفها.
من هذه العقبات تحويل السلطة السياسية في أي بلد من بلاد العرب والمسلمين إلى سلطة غريبة عن أن تنسجم مع الوطن والمواطن، فتستمد قوتها من ارتباطها بالخارج لا أن تستمد قوتها من شعبها. في الحقيقة دور السلطة حتى لو كانت علمانية دورها هو أن تقدم للوطن وللمواطن، تستمد عنوان شرعيتها ومبرر وجودها من هذه القضية. ويتوقف نجاح أي سلطة على مدى قدرتها على دمج الأمة بحيث تدرك هذه الأمة أنها حينما تتفاعل مع السلطة لا تتفاعل معها بما هي سلطة وإنما تشعر أن تفاعلها يصب في مصلحة بناء الوطن، يساهم في بناء الوطن ويصب في المصلحة العامة لهذه الأمة، حينما تكون السلطة تفكر بشكل غريب عن هذه القضية تحصل قطيعة، فجوة بين السلطة والأمة، وبالتالي تبقى الأمة من دون الاعتماد على ركيزة سياسية وتبقى السلطة دون اعتماد على قاعدة جماهيرية، وهكذا تضرب الأمة بالسلطة وتضرب السلطة بالأمة ويتحول ذلك إلى عقبة أمام المشروع النهضوي، بينما المفروض أن يحصل نوع من أنواع التفاهم ولو مرحليا بين الأمة والسلطة في أن تقدم مصلحة الوطن، مصلحة المواطن، المصلحة العامة، مصلحة الأمة، أن تقدم على كل الخلافات التي تقع بين التيارات السياسية وبين السلطة وأن تنفتح هذه السلطة على التيارات السياسية وعلى الفاعليات السياسية والثقافية في الأمة.
وبالتالي هناك دائرتان، دائرة اشتراك ودائرة اختلاف في وجهات النظر، في دائرة الاشتراك لا يوجد ما يمنع من تنسيق تام بين السلطة وبين المؤسسة الدينية وبين السلطة وبين قطاعات الأمة النزيهة من أجل مصلحة الأمة. المقصود بالسلطة هو السلطة الوطنية. وفي دائرة الاختلاف في وجهات النظر لا بد أن يحتفظ كل من الطرفين بمساحة محترمة وحرة للحركة دون أن يقع تقاطع، فلا بد أن يحصل نوع من أنواع التفاهم لتجاوز المرحلة التي نمر بها وهي مرحلة صعبة وحرجة جداً.
هناك قضايا لا بد أن يهتم بها مفكرونا وسياسيونا في العالم العربي والإسلامي منها: -
1) معالجة الفقر.
2) تحقيق العدالة الاجتماعية.
3) تصعيد نسبة التعليم والثقافة، تصعيد المستوى الثقافي في الأمة.
4) تحقيق المشاركة السياسية.
5) مواصلة خط التنمية.
6) إيجاد الاستقرار السياسي والاجتماعي.
7) الاهتمام بمسألة حقوق الإنسان.
8) التأكيد على الوحدة.
هذه القضايا أساسية، إذا لم تلتحم كل الطاقات في عالمنا العربي والإسلامي لتحقيقها وللسعي في خطها فحينئذ سوف تقف هذه الأمور عقبات في طريق المشروع النهضوي.
هناك عقبة أخرى وليست أخيرة هي أن هناك محاولات وخططا ومؤامرات للقيام بعمليتين مزدوجتين الأولى تظهير وتصعيد وتسويق رموز وشخصيات سواء أكانت سياسية أو فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية مصطنعة وتافهة ليست لها كفاءة ولا يمكن أن تقدم خدمة لهذه الأمة. فهناك محاولات لتسويق مثل هذه المحاور على أنها هي المحاور القيادية التي يجب أن يرتبط بها الناس. وهذه المحاور تفسد أكثر مما تصلح لأنها لا تمتلك عقلية الإصلاح ولا تمتلك كفاءة القيادة وبالتالي من خلال هذه المحاور تبقى الأمة في مستوى هابط سياسياً، دينياً، اقتصادياً، ثقافياً، اجتماعياً، تبقى هذه الأمة في مستوى هابط لأن كل مفاتيح صعود الأمة ورقي الأمة سوف تكون بيد الاستعمار وبيد الأعداء باعتبار أن هذه المحاور ترتبط بهؤلاء الأعداء، وبالتالي مفاتيح السيطرة، مقاليد الأمة دينياً، سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، اجتماعياً تكون بيد العدو.
والعملية المزدوجة الثانية خنق أي طاقة مخلصة تريد أن تتقدم الأمة، تعمل من أجل أن تحتل هذه الأمة دورها الطبيعي وأن تستعيد مكانتها الطبيعية، فتخنق مثل هذه الطاقة ويعتّم على مثل هذه الطاقة، وبالتالي هناك محاولات للتشويه أيضاً لأن تهميش صاحب الكفاءة أمر صعب جداً لأنه يفرض نفسه بكفائته، لذا يحاولون حينئذ إثارة الغبار عليه، يحاولون قتل شخصيته، يحاولون إيجاد الخلاف حوله، يعملون على أن تتحول هذه الشخصية إلى شخصية مثيرة للجدل بدل أن تكون شخصية مثيرة للاهتمام، وهكذا كلما تبرز طاقة أو محور يمكن من خلاله أن تتقدم الأمة يعـتّم عليه ويضرب ويقضى عليه، وهذه خطة خبيثة سعى فيها الاستعمار سابقاً، لكنه لم يوفق لكل ما يريد، لم يحقق النجاحات التي كان يريدها لأن بعض هذه المحاور استطاعت أن تخرج من القمقم واستطاعت أن تكسر الطوق، ولكن في هذا المقطع على وجه الخصوص نتيجة لارتباك الأوضاع في عالمنا العربي والإسلامي، يستفيد العدو من ارتباك الأوضاع ومن تشتت الأفكار، لتحقيق هذه القضية. وهذا الأمر يحتاج إلى وعي بالغ من الأمة لتفويت الفرصة على العدو وإفشال هذه المؤامرة.
هذه بعض العقبات التي نعتقد أنها تقف حاضراً ومستقبلاً في طريق المشروع النهضوي. وقلنا إن المرحلة الأولى هي مرحلة وعي الأمة بهذه العقبات لتبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة مقاومة الأمة بوجه هذه العقبات، وأن تفوّت هذه الأمة الفرصة على أعدائها، وأن تزيح هذه العقبات من طريقها لكي تتمكن من أن تخطو خطوات طبيعية نحو النهضة.
والحمد لله رب العالمين.
_______________
(*)محاضرة ألقيت على جمع من المثقفين في بغداد بتاريخ 22/12/1424هـ.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد