الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

المحاضرات

دور الدين في صنع الحضارة (*)

كثر الحديث وعلى مديات طويلة حول الدور الذي يمكن أن يقوم به الدين في صنع الحضارة البشرية، واختلفت اتجاهات المفكرين والفلاسفة حول هذا الدور، فهناك اتجاه ينكر أن يكون للدين دور حقيقي جدي فاعل في صنع الحضارات، وهناك اتجاه يذهب إلى أن دور الدين دور سلبي يؤثر بطريقة سلبية على سير وحركة الحضارة. والفرق بين الاتجاه الأول والاتجاه الثاني، هو أن الاتجاه الأول ليس له موقف سلبي من الدين، وإنما يرى أن الدين لا يدخل كعنصر من العناصر الأساسية في صنع الحضارة. بينما الاتجاه الثاني يذهب إلى أن الدين له أثر تخريبي ومعيق في صنع الحضارة. وهناك اتجاه ثالث يعتقد بالدور الإيجابي للدين، ولكن هذا الاتجاه اختلفت مدارسه في تحديد ذلك الدور سعة وضيقاً، واختلفت أيضاً في نمطية هذا الدور، وكيف يمكن للدين أن يكون عنصراً فاعلاً في صنع الحضارة.
ونحن نريد في هذه المحاضرة الموجزة أن نعالج هذه المسألة، يعني كيف يدخل الدين في صنع الحضارة. لأننا لسنا الآن بصدد إثبات دور الدين في صنع الحضارة، فهذا له بحث نظري موسع مستقل، وإنما نأخذ الدور الإيجابي للدين في صنع الحضارة كمصادرة مفروغ عنها، وذلك لأن الواقع العملي أثبت تاريخياً الدور الإيجابي للدين في صنع الحضارة، وهذا ما يشهد به تاريخ الإسلام، هذا الدين الذي استطاع أن يحول مجتمع الجزيرة من مجتمع جاهلي غير حضاري إلى مجتمع طليعي في صنع الحضارة، واستطاع هذا المجتمع ومن مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينطلق نحو الدنيا المترامية ليؤسس كياناً حضارياً كبيراً، أصبح حلقة مهمة من الحلقات التي لا يمكن أن تتجاهل ولا يمكن أن تغفل في المسيرة الحضارية للبشرية. فلهذا نأخذ هذه القضية كمصادرة ومسلمة مفروغ عنها ولا ندخل في البحث النظري لإثبات ذلك، إذ نكتفي بذلك الواقع العملي الذي يشهد به التاريخ لننطلق من هذا الواقع لدراسة كيفية دخول الدين في صنع الحضارة.
المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي يعتبر من العقول المفكرة ومن أعمدة الفكر العربي والإسلامي ومن أعمدة التنظير الفكري للنهضة الإسلامية في العصر الحديث، يعتقد في كتابه (شروط النهضة) أن الدين دائماً وعلى مر التاريخ يمكن أن يكون هو المركب الحضاري.
توضيح هذه الفكرة هو أنه يعتقد أن الحضارة مزيج من ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو الإنسان، والعنصر الثاني هو التراب، والعنصر الثالث هو الوقت والزمن، فكل حضارة من الحضارات البشرية لا تتحقق إلا إذا حصل هذا الامتزاج بين الإنسان والتراب والزمن، فإذا امتزجت هذه العناصر الثلاثة أنتج ذلك الامتزاج حضارة بشرية. والدين هو الذي يركب هذه العناصر الثلاثة. فدور الدين هو دور المركب الحضاري للعناصر الأساسية التي تنتج هذه الحضارة البشرية، وعلى هذا الأساس نفهم أن الدين ليس هو العنصر الذي يدخل في المزيج الحضاري لأن المزيج الحضاري يعبر عن الإنسان أولاً، والتراب الذي قد يرمز إلى الثروة ثانياً، والوقت، عامل الزمن ثالثاً، فالدين ليس هو الإنسان، وهذا أمر واضح، والدين ليس هو التراب، والدين ليس هو الزمن، وإنما الدين أمر خارج عن هذه العناصر الثلاثة، لكنه بتعاليمه يخلق المركب الحضاري الذي يمزج بين هذه العناصر الثلاثة ليكوّن حضارة بشرية. هذه هي الحصيلة التي يعبر بها مالك بن نبي عن دور الدين في تشكيل الحضارة.
ولكننا نختلف معه في ذلك لأننا لا نرى أن الحضارة البشرية عبارة عن مزيج من الإنسان والتراب والزمن، وإنما نعتقد أن الحضارة مزيج أيضاً من ثلاثة عناصر ولكنها هي الآتي: الإنسان زائداً الفكر زائداً الثروة، فإذا امتزج الإنسان مع الفكر ومع الثروة يستطيع أن يبني حضارة. الإنسان هو العامل الأول في صنع الحضارة، لأن بناء الحضارة يحتاج إلى الطاقة البشرية، والإنسان هو الذي يمتلك هذه الطاقة العاقلة المفكرة التي لها اللياقة البدنية لصنع الحضارة. ولكن هذا الإنسان ككائن حي يمتاز بالعقل ويمتاز بالقدرة على التفكير، لا يمكنه أن يصنع الحضارة بما هو إنسان، وإنما يحتاج هذا الإنسان لكي يصنع الحضارة، يحتاج إلى برنامج لصنع الحضارة، وهو الذي نعبر عنه بالفكر، يحتاج إلى الفكرة، إلى النظرية التي تصنع الحضارة، لأن صنع الحضارة كالهندسة بالنسبة لأي بناء، هذه الهندسة كما تحتاج إلى اليد العاملة، البناء كما يحتاج إلى اليد العاملة يحتاج إلى الخريطة والتصميم الذي في ضوءه يمكن لهذه اليد العاملة أن تشيّد البناء، فأي مهندس وأي بانٍ، أي معمار لا يمكنه أن يشيّد بناءً إلا إذا كانت لديه خريطة لذلك البناء. والفكرة والنظرية هي التي تعبر عن خريطة البناء الحضاري، فأي إنسان لا يمكنه بما هو إنسان، بما هو قوة عاقلة، بما هو مفكر بالقوة، لا يستطيع أن يبني حضارة إلا إذا كان يمتلك النظرية الحضارية للبناء، إلا إذا كان يمتلك المادة الفكرية التي تشاد بها الحضارة، ولهذا لا بد أن يدخل الفكر، أن تدخل النظرية كعنصر أساسي في صنع الحضارة. والعنصر الثالث هو الثروة وليس الزمن، لأن الزمن عبارة عن وقت، هذا الوقت يحتضن عملية البناء الحضاري ولا يكون جزءً منها وإنما هو الحاضنة، الوقت هو الحاضنة الزمانية للبناء الحضاري، ولهذا فإن العنصر الأساسي الثالث الذي يجب أن يكون في مكان الوقت والزمن هو الثروة، لأن أي مجتمع إذا لم يكن يمتلك مادة البناء الحضاري، إذا لم يكن يمتلك ثروة البناء الحضاري لا يستطيع أن يبني حضارة. ونريد بالثروة مادة البناء الحضاري.
الحضارة عبارة عن إنجازات علمية تقنية وعبارة عن إنجازات ثقافية كلها في طريق رقي الإنسان وتقدم الإنسان، ولهذا سميت بالحضارة، وسميت بالمدنية في مقابل حالة البداوة وسذاجة المجتمع، فإن مجتمع البادية ليس مجتمعاً حضارياً وإنما الحضارة مأخوذة من الحضر في مقابل البدو ومأخوذة من المدنية في مقابل الصحراء، المدينة في مقابل الصحراء، وبالتالي معنى المدنية ومعنى الحضر والحضارة أن يكون الاتجاه، أن تكون حركة ذلك المجتمع نحو الإنجازات التي تقع في طريق التقدم والرقي لذلك المجتمع بحيث تخرجه من مجتمع البداوة الساذج البسيط إلى مجتمع المدنية الراقي والمتقدم. وبناء هذه المدنية يحتاج إلى الثروة، ليس المقصود بالثروة هو مجرد البعد المالي والنقدي، وإنما المقصود مادة البناء الحضاري، هذه المادة هي عنصر أساسي في بناء الحضارة. فإذن الحضارة ليست مزيجاً من الإنسان والتراب والزمن، وإنما هي مزيج من الإنسان والفكر والثروة، متى ما امتزج الإنسان مع الفكر والثروة استطاع أن يكون حضارة وأن يبني حضارة. دور الدين هنا ليس هو دور ذلك الشيء الخارج عن هذه العناصر المركب لها، وإنما الدين في الحقيقة جزء من هذا المزيج، عنصر من هذا المزيج، لأن الدين هو النظرية التي يبنى على أساسها البناء الحضاري. حينما قلنا إن الحضارة مزيج من إنسان وفكر وثروة، فإن الدين يدخل في عنصر الفكر، لأن الدين هو الذي يقدم نظرية البناء الحضاري، طبعاً الدين ليس لوحده عنصراً في هذه القضية، وإنما هو جزء، لأن النظرية الحضارية تنقسم إلى قسمين، يعني محتواها ومصادرها تنقسم وتتنوع إلى نوعين:
النوع الأول: المعرفة البشرية وفكر بشري وتجربة إنسانية.
والنوع الثاني: هو الفكر الديني والتوجيه الرباني والهدى السماوي الذي ينزل إلى الإنسان والذي في ضوئه يستطيع أن يبني حضارة.
الدين لا يعلّم الإنسان علم الطب أو علم الرياضيات أو ما شاكل من العلوم، وإنما هذه العلوم، علوم تعتمد على المعرفة البشرية، على العقل البشري، على حصيلة التجربة الإنسانية، على حصيلة الخبرة الإنسانية، ولكن الدين يعطي للإنسان ثقافة الحياة، نمطية الحياة. وأما العلوم التي تدخل في طريق رقي الإنسان وتقدم الإنسان، فهذه معرفة بشرية حصيلة لتجربة البشر ولمعاناة البشر فكرياً، أما نمطية الحياة، ما الذي يدفع ذلك المجتمع نحو العلوم والمعارف واكتساب العلوم والمعارف؟، الدين هو الذي يحفز الإنسان نحو اكتساب العلم والمعرفة بالشكل الذي يدفعه نحو الرقي، فالدين لا يقف موقفاً حيادياً من مسألة العلم، وإنما يقف موقفاً إيجابياً فاعلاً، الدين يرفض الجهل، يرفض التخلف، يرفض الجاهلية، الدين هو الذي يعلم الإنسان «إن من تساوى يوماه فهو مغبون»، وهو الدافع الأساسي نحو التطور، لأنك إذا أردت أن لا يتساوى يوماك فمعنى ذلك أنه يجب عليك أن تطور نفسك وأن تطور حياتك، الدين يعطيك نمطية وثقافة الحياة، وبالتالي يدخل كجزء أساسي في عنصر الفكر الذي هو العنصر الأساسي أيضاً لبناء الحضارة. الحضارة إذا كان بناؤها يعتمد على الإنسان والفكر والثروة، فإن الفكر جزءان:
جزء بشري هو حصيلة لمعرفة البشرية والتجربة الإنسانية
والجزء الآخر هو الذي يقدمه الدين كبرنامج للحياة وكثقافة للحياة، وهو الذي يعطي للإنسانية نمطية حياتها. في ضوء هذه النمطية يمكن أن يتفاعل الإنسان مع الفكر ويتفاعل مع الثروة فيصنع الحضارة.
ولعل الذي أدى ببعض المفكرين ومنهم مالك بن نبي إلى جعل الدين مركباً حضارياً، هو أنهم وجدوا أن الدين هو الذي يعطي نمطية الحياة، وبالتالي إذا كان الدين يعطي تعاليماً يحدد بها نمط حياة الإنسان فسوف يكون هو المركب بين هذه العناصر. ونحن لا ننكر أن يكون للدين هذا الدور، ولكننا في نظرة فاحصة نجد أن الدين ليس عبارة عن ذلك المركب الخارج عن المزيج الحضاري، وإنما نعتقد ما دمنا قد صححنا المعادلة إذ بدل أن تكون المعادلة هي الإنسان زائداً التراب زائداً الزمن، سوف تكون المعادلة هي الإنسان زائداً الفكر زائداً الثروة، بناءً على ذلك إذا كان الفكر والنظرية هو العنصر الأساسي في صنع الحضارة فلماذا نجعل الدين خارجاً عن ذلك المزيج ما دام أن الفكر عنصر في بناء الحضارة؟، فإذا كان الفكر هو العنصر، فالفكر يتنوع إلى نوعين، النظرية تتنوع إلى نوعين، نوع يعبر عن معرفة بشرية تتخذ سبيل الرقي والتقدم، والنوع الثاني يعبر عن ثقافة نمطية للحياة، فبدل أن نجعل هذه الثقافة النمطية خارجة عن المزيج الحضاري ومركبة له، سوف تدخل هذه الثقافة النمطية كجزء أساسي لا يتجزأ من ذلك المزيج الحضاري. فإذن الدين دوره بناءً على ذلك هو أن يكون عنصراً أساسياً في بناء الحضارة في مزيجها، لا أنه هو المركب، وهذه الفكرة لها ثمرات تختلف مع فكرة المركب الحضاري، من أهم ثمرات هذه الفكرة هو أنه بناءً على تلك الصياغة التي أتى بها مالك بن نبي سوف لا يمكن أن نتصور حضارة من دون الدين، ولهذا أصر مالك بن نبي على أن الحضارة الأوربية الحديثة كان للمسيحية ولتعاليمها الدور الأساسي في صنعها، لأنه يعتقد أن المزيج الحضاري لا بد له من مركب ديني، ولا حضارة من دون ذلك المركب الديني، وبالتالي لم يكن يتمكن من أن يتصور قيام حضارة من دون المركب الديني، فألجأه ذلك إلى أن يجعل تعاليم المسيحية هي المركب الديني للحضارة الأوربية الحديثة. بينما ليس بالضرورة في صنع الحضارة أن يكون الدين موجوداً، يعني يمكن أن تصنع حضارة من دون الدين، ولكن كيف ستصنع؟، ستصنع حضارة ناقصة غير متوازنة، لأن الذي يوازن هو وجود جزأين للفكرة ولنظرية البناء الحضاري، الجزء الأول: المعرفة البشرية، والجزء الثاني: الثقافة النمطية للحياة.
فإذا لم يكن الدين دخيلاً في ذلك المزيج الحضاري، سوف تنشأ حضارة، وتبنى حضارة، ولكنها ستبنى بشكل ناقص غير متوازن يفتقد الثقافة النمطية للحياة المستوحاة من السماء، فيأتي المجتمع حينئذ بثقافة نمطية بشرية ووضعية، وهذا ما حصل للحضارة الأوربية، فالحقيقة هي أن الحضارة الأوربية الحديثة لم تكن تعتمد على تعاليم المسيحية مطلقاً ولم تكن تعاليم المسيحية هي المركب الحضاري لها، بل هذه الحضارة الأوربية إنما صنعت بمعزل عن تعاليم المسيحية، بل بالتنكر لتعاليم المسيحية، حتى أن النهضة الحضارية التي تحققت لأوربا والتي أطلق على أوجها مصطلح الرينايسينس، والذي يعني التنوير، كان يقصد بالتنوير الابتعاد عن ما هو ديني وعما يرتبط بالكنيسة، ولهذا فإن الحضارة الأوربية قامت بمعزل عن تعاليم المسيحية ولم تكن هذه التعاليم هي المركب الديني للمزيج الحضاري، وهذا شاهد يدل على الخطل في نظرية مالك بن نبي بالنسبة لكيفية دخول الدين في صنع الحضارة، إذ أنه جعل دور الدين، دور المركب الحضاري، وهذا يعني أنه لا يمكن أن تنشأ حضارة إلا إذا دخل الدين في صنعها، بينما نجد أن هناك حضارات نشأت ولم يكن للدين دور في صنعها، وهذا يعني أن دور الدين ليس هو المركب للمزيج الحضاري، وإنما الدين يدخل كعنصر أساسي من عناصر ذلك المزيج، وهو الفكر، غاية الأمر أن الحضارة التي لا تعتمد على الدين سوف تكون حضارة غير متوازنة، لأن الثقافة النمطية التي تدخل كجزء في نظرية البناء الحضاري سوف لا تكون ثقافة مستوحاة من السماء، وإنما سوف تكون نمطية ثقافية وضعية، بينما الحضارة التي يصنعها الدين، هو الذي يعين لها نمطيتها الثقافية، وبالتالي سوف يكون المحتوى الأساسي النمطي للحضارة، محتوىً ربانياً سماوياً، فيتجلى بذلك البعد الرباني وكذلك البعد الإنساني للحضارة. نحن الآن نجد في الغرب حضارة تبعث على الدهشة في الحقيقة من حيث إنجازاتها التقدمية من حيث الرقي، من حيث قدرة الإنسان على أن يحقق كلّ ما يريده ويطمح إليه مادياً، ولكن هذه الحضارة في بعدها الإنساني حضارة ناقصة، مشوهة، تفتقد إلى ذلك البعد الإنساني الرفيع، هذا المجتمع الحضاري الغربي الذي استطاع أن يصل إلى المريخ، وأن يرسل صوراً من المريخ إلى الأرض، هذا المجتمع يعاني في داخله من تفكك الأسرة، التزايد المضطرد للطلاق، زيادة الجرائم، التفسخ الخلقي، الخواء الروحي، السبب في ذلك هو أن الدين لم يحدد لهذه الحضارة نمطيتها الثقافية، وإنما تحددت نمطيتها الثقافية من خلال الفكر الوضعي المبتعد عن تعاليم السماء، فجاءت هذه الحضارة، حضارة ناقصة غير متوازنة، تحققت حضارة، ولكنها تحققت بشكل ناقص مشوه، بينما الحضارة الإسلامية حينما تحققت كان بعدها الإنساني هو البعد الملفت للنظر. وحتى المستشرقون لم يستطيعوا أن ينكروا البعد الإنساني الثر الغزير لحضارة الإسلام، فهي حققت التقدم والرقي للمجتمع في ذلك الوقت، وتقدمت العلوم والمعارف ولكنها إلى صف ذلك اهتمت بالجانب الروحي واهتمت بالجانب الإنساني، وبالتالي كانت لها قيم ومثل، فهي حضارة قيم ومثل وحضارة فضائل، بينما الحضارة الأوربية الحديثة هي حضارة تقنية وتقدم مادي وليست حضارة قيم ومثل معنوية ربانية فافتقدت إلى التوازن، بينما الحضارة الإسلامية حضارة متوازنة فنجد صورة إنسانية تشهد لذلك البعد، فأي مقارنة نجريها نستطيع أن نصل إلى الفارق المعنوي بين الحضارتين. نحن الآن نعيش في ظل حضارة غربية لها إنجازاتها العظيمة، ولكن لنأت إلى البعد الإنساني، هذه الجيوش التي هي جيوش وعساكر الحضارة الغربية كيف تتصرف؟، هل تتصرف بشكل إنساني حضاري؟ انها تريد ان تحقق الانتصار بأي ثمن ولو بألقاء قنبلة ذرية تهلك الالاف من النفوس البريئة كما في هيروشيما. بينما هناك صور تبعث على الاعتزاز بحضارتنا الإسلامية، دخل الجيش الإسلامي إلى سمرقند، فتح سمرقند، وبدخوله إلى سمرقند أعطى تعهدات إلى أهالي سمرقند أنه إذا دخل إليهم وإذا استقر الفتح الإسلامي فيهم فهناك تعهدات، دخلوا بشروط إلى سمرقند، فتحت لهم سمرقند بشروط ولكنهم عجزوا عن الإيفاء بشروطهم وتعهداتهم، فشكا أهل سمرقند إلى من تبوء في ذلك الوقت منصب الخلافة، كان ذلك في زمان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، شكوا إليه أن هذا الجيش المسلم الذي دخل سمرقند فاتحاً لم يف بتعهداته وشروطه، فنصّب لهم قاضياً مسلماً يقضي بينهم وبين جيشه هو، بين عساكره هو، بين جيش الفتح الإسلامي، فقضى لصالح أهل سمرقند وألزم الجيش بالخروج من المدينة لأنه لم يف بتعهداته. لم يرجع أهل سمرقند إلى هيئة دولية تجبر جيش الفتح على أن يخرج بعد أن دخل فاتحاً مظفراً، وإنما نفس قاضي تلك الدولة المسلمة، قاضي تلك الحضارة هو الذي ألزمهم بالخروج، هذا هو البعد القيمي والإنساني للحضارة الإسلامية، مثل هذه الصورة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نجدها في حضارة تفتقد إلى ذلك البعد القيمي الرباني.

______________
(*)محاضرة ألقيت على جمع من المثقفين في بغداد بتاريخ 8/12/1424هــ.

السابق

 

 

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com