الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور المحاضرات
الإنسان بين المدرسة الربانية والمدرسة الوضعية (*)لا شك في أن للإسلام نظرة كونية شاملة للحياة والإنسان. ولعلنا ألمعنا في بعض المحاضرات السابقة إلى بعض المفاصل الرئيسة في هذه النظرة. وفي هذه المحاضرة نريد أن نتحدث عن نظرة الإسلام بل عن نظرة المدرسة الإلهية عموماً عن الإنسان وما هو التصور الديني عن الإنسان.
لا شك في أن الإنسان هو محور اهتمام نفسه، تصوراته، أفكاره، اهتماماته، تدور حول نفسه، وغريزة حب الذات تدعوه إلى ذلك. ولهذا فإن فكر الإنسانية وتحقيقاتها ودراساتها تتركز على هذا الجانب، بمعنى أن الإنسان فرداً أو مجتمعاً هو محور فكر الإنسانية كلها، وهو الذي يأخذ الحيز الأكبر في أبحاثها وتحقيقاتها ودراساتها واهتماماتها. والمدارس الفكرية على تنوعها وعلى اختلاف اتجاهاتها لها تصورات محددة عن الإنسان وقيمته. هذه التصورات ليست بالضرورة تتطابق مع التصور الديني ومع المدرسة الإلهية عموماً، والمدرسة الإسلامية على وجه الخصوص. قد تتطابق في بعض جوانبها ونقاطها وتختلف في نقاط أخرى بدرجات متفاوتة من الاختلاف. بعض هذه المدارس لها مساحات مشتركة في تصورها عن الإنسان مع المدرسة الإلهية، وهذه المساحة قد تتسع من مدرسة إلى أخرى. وهناك مدارس فكرية تختلف تماما مع النظرة الربانية للإنسان. ما نريد أن نعرفه هو أبعاد النظرة الربانية للإنسان ومقارنة هذه النظرة بأهم المدارس الفكرية التي اهتمت بهذا المجال وأعطت تصوراً عنه.
الشيء الذي يمكن أن نأخذه كحقيقة نستطيع أن نبرهن عليها من خلال القرآن والسنة بل حتى من خلال أدبيات المدرسة الإلهية، بأديانها المتعددة هو أن الإنسان لم يأخذ قيمته الموضوعية الحقيقية في أي مدرسة وضعية بمقدار ما أخذه من قيمة موضوعية حقيقية في المدرسة الربانية. ولهذا تتفوق هذه المدرسة فيما أصدرته من معطيات عن الإنسان والإنسانية تفوقاً ملحوظاً على سائر المدارس الأخرى.
ولكي نفصّل ونوضح أبعاد هذه الحقيقة التي قلنا إنها حقيقة مُسَلّمَة نستطيع أن نبرهن عليها، لا بد أن نستعرض مجموعة من النقاط التي تعبر عن امتيازات لهذه المدرسة الربانية في تصورها عن الإنسان. قيمة الإنسان، والدور الذي منحته هذه المدرسة للإنسانية كلها.
أول ما يبدو لنا من هذه النقاط هو أن الإنسان والإنسانية بوجودها المجموعي هي المحور الأساس للكون كله في المدرسة الإسلامية والدينية، ففي هذه المدرسة نجد التركيز والتأكيد على أن هذا الكون بعرضه العريض بكل ما فيه إنما خلق من أجل الإنسان ولأجل هذه الإنسانية ووضع في خدمة الإنسان، هذا الوجود المجموعي للبشرية هذا الوجود الذي هو سلسلة تاريخية متصلة. كلّ هذا الكون وضع من أجل الإنسان، خلق من أجل الإنسان، ولا شك في أن هذه قيمة كبرى تعطى للإنسانية، حينما تكون هذه الإنسانية هدفاً للوجود الكوني وتكون هذه الإنسانية محوراً لهذا الكون. كلّ شيء في الكون خلق من أجل الإنسان ووضع في خدمة الإنسان وفتحت مجالات الاستفادة من الكون الرحيب للإنسان وسخر هذا الكون كله للإنسان وصمم بالشكل الذي يمكن أن ينتفع منه الإنسان. وأما بالنسبة إلى هذا الكوكب الذي هو الحاضنة الجغرافية للوجود المجموعي للإنسانية فهذا الكوكب بالأساس هدفه الأساسي هو الإنسانية، هناك آيات متعددة تشير إلى هذه القضية: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] هذه الأرض هذا الكوكب إنما خلق ومهد من أجل الإنسان {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 29]،{أ َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]. إلى غير ذلك من الآيات التي تدل دلالة واضحة على أن هذا الإنسان، هذا الوجود المجموعي للإنسانية هو المحور الأساسي الكوني في كلّ هذه الخليقة، وأن هذا الكوكب إنما خلق بالأساس ليحتضن هذا الوجود المجموعي. وهذا يعني القيمة العظمى الكبرى لهذا الوجود بالشكل الذي يسخر كلّ ما حوله من أجله ويخلق كلّ ما حوله من أجله. هذه قيمة كبرى أعطيت لهذا الوجود الإنساني فالإنسان إذاً محور كوني ومكّـن تمكيناً تكوينياً بمعنى أن الكون قد صمم بالشكل الذي تأخذ فيه الإنسانية دورها الطبيعي ومحلها الطبيعي وتتهيأ لها كلّ الفرص التي تمكنها من أن تمارس دورها الخلاق العظيم. هذه النقطة الأولى .
النقطة الثانية: جعل الإنسان محوراً للتشريع، مئة وأربعة وعشرون ألف نبي كلّ هؤلاء من أجل الإنسانية، إرسال الرسل، إنزال الكتب، الاهتمام التشريعي والتقنيني بالإنسان يجعل من الإنسانية محوراً للتشريع. وهذه أيضاً قيمة كبرى تمنحها المدرسة الربانية للإنسانية كلها حينما تحتضنها تشريعاً، لم يترك هذا الإنسان سدى وإنما تكفلت السماء بهدايته في كلّ تفاصيل حياته، طبعاً باختلاف المجتمعات باختلاف الأزمنة باختلاف الأمكنة باختلاف طبيعة التركيبة الاجتماعية باختلاف الهدف الذي يأتي على أساسه الأنبياء. ولكن الحقيقة المشتركة، الحالة المشتركة هي أن الإنسانية محور للتشريع الإلهي، واحتضنت السماء الإنسان تشريعياً، بل احتضنته تربويا في البداية لأن آدم وهذا بحث مستقل آخر، آدم وأبناؤه مروا بدور يمكن ان يسمى بدور الحضانة بمعنى أن التجربة الأولى التي خاضتها الإنسانية كانت بتدخل مباشر من السماء في كلّ التفاصيل في تعليم اللغة، حتى في تعليم الدفن كما دلت على ذلك الآية حينما أرسل الغراب ليعلم هذا الإنسان كيفية الدفن. فإذن السماء احتضنت الإنسان تشريعياً وتكفلت بهداية حياته من خلال التقنين الدقيق الذي صدر من رب هذا الإنسان، من خالق هذا الإنسان، من خالق هذا الكون الذي يعلم بدقائق حياة الإنسان ومصالح الإنسان الحقيقية. فإذن الإنسانية محور من محاور التشريع.
النقطة الثالثة: الإنسان محور لفيوضات الله ورحمته العامّة والخاصة، والهدف الأساسي لله سبحانه وتعالى هو إيصال هذا الإنسان إلى مرتبة الكمال وتحقيق سعادته في الدنيا وفي الآخرة، هذا هو هدف الله بالنسبة للإنسان، الهدف هو إسعاد هذا الإنسان، إسعاد هذه المجموعة البشرية. كما يعتز صانع أي قضية، وأي شيء يصنعه الإنسان فانه يعتز بما يصنع، المفكر يعتز بما يؤلف، العالم يعتز بما ينتج، فإن الله سبحانه وتعالى تعامل مع الإنسان كأعز مخلوقاته وصنائعه يعتز بهذا الوجود المتميز، وقد منحه من المؤهلات واللياقات ما يمكّنه من أن يكون وجوداً متميزاً على كلّ الخلائق.
النقطة الرابعة: الدور الذي أعطي للإنسانية دور خلافة الله سبحانه وتعالى على الأرض وهذا دور مهم وجليل وخطير. الخليفة هو الذي يقوم مقام المستخلف. الذي ينوب عن المستخلف هذا هو معنى الخلافة. وحينما يجعل الإنسان خليفة لله على الأرض فمعنى ذلك أن هذه الإنسانية هي الممثلة والنائبة عن الله سبحانه وتعالى. وهذا دور كبير جداً وهو الذي عجزت عن حمله السماوات والأرض والجبال، عرضت عليها الأمانة وتقول الآية: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب: 72] فأعطي للإنسان دور متميز لم يعط لأي من المخلوقات، حتى الملائكة الذين هم وجود كله طاعة لله سبحانه وتعالى ولا تتأتى منهم المعصية مع ذلك حتى هذا الوجود الملائكي لم يجعل له دور الخلافة ولم يمنح حق الخلافة وصفة الخلافة ومسؤولية خلافة الله سبحانه وتعالى، وإنما اختص الإنسان من كلّ مخلوقات الله سبحانه وتعالى، اختصت الإنسانية بهذا الدور. فإذن الإنسان هو خليفة رب الكون. حينما نلاحظ عظمة المستخلف نعرف قيمة وعظمة الدور الذي منح للمستخلف في أن يكون خليفة عن الله سبحانه وتعالى. هذا الرب الذي لا يدرك كنهه، الذي كله عظمة وكله قدرة والذي له هذه الصفات العظمى المطلقة، جعلت الإنسانية خليفة لهذا الرب وهذا دور كبير جداً منحته المدرسة الإلهية للإنسانية: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165] حينما نأخذ بنظر الاعتبار هذه النقاط نأتي إلى المدارس الفكرية.
هذه المدارس يمكن أن تتنوع إلى نوعين:
مدارس غالت في الإنسان وحاولت أن تعطيه قيمة كاذبة، لأن قيمة أي شيء إذا فاقت حجم ذلك الشيء وإذا فاقت وضعية ذلك الشيء سوف تكون قيمة كاذبة. بعض المدارس الفكرية اعتمدت سبيل الديماغوجية في المزايدة بالنسبة إلى قيمة الإنسان، تعطي للإنسان من جهة قيمة عالية لكنها قيمة تخرج هذا الإنسان عن حد الإنسانية وعن الدور الذي يجب أن يقوم به، فهي إذن تعطيه قيمة غير موضوعية. وبعض المدارس تحتقر هذا الإنسان وتقلل من قيمته وتنزل بهذا الإنسان إلى مستويات متدنية جداً، وبعض هذه المدارس خاصة الاتجاه المادي في هذه المدارس لا يرى في الإنسان إلا كومة من العناصر الكيمائية التي تركبت في هذا البدن. هذا الإنسان الذي تقول المدرسة الربانية إنه هو محور الكون وإنه هو محور التشريع وإنه هو الخليفة لله سبحانه وتعالى وإنه هو المركب من روح وبدن تنزل به بعض هذه المدارس الفكرية إلى أن تجعل منه عبارة عن وجود مادي بحت، عن وجود فيزيائي كالوجودات الأخرى وإنما يختلف عنها في بعض الصفات. هذا ما تقوله المدرسة المادية عن الإنسان لا ترى في هذا الإنسان إلا بدنا مركباً من عناصر كيمائية له وجود مادي فيزيائي على الأرض يختلف عن الوجودات الأخرى في الصفات التي يتصف بها هذا الإنسان وفي القدرة التي له في السيطرة على الطبيعة ولكنها تعتبره وجوداً مصنوعاً من قبل الطبيعة، فهو وجود طبيعي مادي له عمر زمني محدود، هذا العمر تكتنفه ظروف، تؤثر عليه عوامل يكون الإنسان فيه منفعلاً لا فاعلاً، يكون الإنسان خاضعاً لجبرية تاريخية ثم ينتهي هذا الوجود ويتلاشى بموت الإنسان وينتهي معه كلّ شيء. مثل هذه المدارس لا يمكن أن تمنح الإنسانية أي قيمة بل تنزل بها إلى مستويات متدنية جداً، بينما المدرسة الإلهية نشيدها (وتحسب أنك جرم صغير وفيك أنطوى العالم الأكبر) تسمو بالإنسان ولكنها حينما تسمو بالإنسان تسمو به على أساس موضوعي، لا تعطيه قيمة كاذبة، فهي لا تقوم على أساس تمجيد الإنسانية مع كلّ ما فيها من سلبيات ولا على احتقارها وإنزالها إلى مستويات متدنية على الرغم من كلّ ما فيها من إيجابيات، وإنما تنظر نظرتين إلى الإنسانية، نظرة تنظر إلى الإنسانية كما هي ونظرة تنظر إليها كما يجب أن تكون وكلتا النظرتين فيهما القدر الحقيقي والكبير من الموضوعية، تنظر إلى الإنسانية كما هي فتقول و{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء: 70] وهذا التكريم تكريم للإنسانية بغض النظر عن قربها أو بعدها من الله سبحانه وتعالى، بغض النظر عن طاعتها وعن معصيتها، هذا تكريم للوجود الإنساني بما هو وجود إنساني. وحينما تنظر إلى الإنسان كما يجب أن يكون وكما ينبغي أن يكون تميز بين المطيع وبين العاصي على أساس معياري الفضيلة والرذيلة فترتفع بالمطيع إلى درجة تفوق درجة الملائكة طبقاً لدرجات طاعته لله سبحانه وتعالى، وتنزل بذلك الإنسان الذي ينحدر هو بنفسه إلى مستنقعات وبيلة، تنزل به فتجعله أخس قيمة من البهائم لأن ذلك الإنسان الذي أعطيت له كلّ هذه القيمة ومع ذلك يصل به الأمر إلى التمرد على الله سبحانه وتعالى بإنكار وجوده وإنكار حقيقة عقلية موضوعية علمية لا يمكن أن تنكر، من الواضح أن مثل هذا الإنسان هو الذي ينزل بنفسه لا أن السماء تنزله وإنما هو ينزل بنفسه إلى مستنقع وبيل تكون درجته فيه أقل من درجة البهائم، هذا الإنسان الذي يتحول إلى مجرد آلة فحسب ينزل بنفسه إلى هذا المستوى، مثل هذا الإنسان درجته تكون أقل من البهائم، ولكن الإنسان المطيع تسمو به السماء بل هو يسمو بنفسه ويرتفع إلى درجة يتفوق فيها على الملائكة.
إذن المدرسة الربانية تعطي للإنسان قيمة موضوعية تنظر إليه بما هو إنسان فتكرمه بغض النظر عن طاعته وعن معصيته وتجعله وجوداً متميزاً وتحترم إرادته لأن أهم شيء منح لهذه الإنسانية هو احترام إرادتها، فالإنسان يتميز بعاملين أساسيين: -
العامل الأول: عامل الوعي والتعقل و العامل الثاني: عامل الإرادة هذا الذي تفتقده الوجودات الأخرى. وبالتالي السماء احترمت إرادة الإنسان ولم تفرض عليه الطاعة فرضاً وإنما هدته إلى طريق الطاعة وأوضحت له طريق الخير وطريق الشر وعولت على وعيه وتعقله مضافاً إلى التعويل على ما تعطيه السماء من هداية للإنسانية.
إذن الإنسان بما هو إنسان كرم وأعطيت له قيمة تتناسب مع الدور الذي يجب أن يقوم به ومع الهدف من خلقته. وبالنسبة إلى ما ينبغي أن يصدر منه وما ينبغي أن يكون عليه أيضاً تعاملت السماء بموضوعية. معناه أن هناك معايير في التفاضل وهذه المعايير قائمة على أساس الطاعة والمعصية، نحن بالتعبير الديني نقول الطاعة والمعصية ولكن في الحقيقة بالتعبير الموضوعي العام، بالتعبير الأخلاقي العام الفضيلة والرذيلة، لأنه ما من طاعة إلا وتجر الإنسان إلى الفضائل وما من معصية إلا وتجر الإنسان إلى الرذائل.
فإذن قيمة الإنسان لا تكون مستمدة في الأصل من طاعته لله ومن معصيته له فالله غني عن طاعة المطيعين، لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه، وإنما الطاعة والمعصية معياران من معايير الفضيلة والرذيلة، إما أن يكون الإنسان ملتزماً بالفضائل وإذا التزم بالفضائل سيكون مطيعاً بلا ريب، وإما أن ينحدر ويتشبث بالرذائل فيكون عاصياً. فالمعيار أيضاً هو الفضيلة والرذيلة وهو معيار موضوعي لا على أساس الطاعة والمعصية، الطاعة والمعصية تعبيران دينيان ولكن لهما رمزية، فالطاعة ترمز إلى الفضيلة والتمسك بالفضيلة، والمعصية ترمز إلى التشبث بالرذيلة. فإذن هناك معياران موضوعيان في هذه القضية.
هذه المدارس الفكرية التي تؤمن إما بجبرية تاريخية أو تؤمن بجبرية اجتماعية أو تجعل الإنسان أسير ظروفه وأسير عوامل حياته تختلف عن المدرسة الربانية، المدرسة الربانية لا تؤمن بذلك بل تؤمن بأن الإنسان هو الذي يحرك التاريخ، زمام التاريخ بيد الإنسان وليس زمام الإنسان بيد التاريخ، الإنسانية هي التي تصنع تاريخها وهي التي تصنع وجودها وهي التي تبني كيانها وهي التي تكون فاعلة لا منفعلة. وحتى هذه المعطيات التي تتمسك بها المدارس الفكرية التي تقول بالجبرية التاريخية أو الجبرية الاجتماعية، هذه المعطيات ترى المدرسة الربانية أنها من صنع الإنسان، مثلاً سوء توزيع الثروة أو سوء الإنتاج للثروة سوف يفرض على المجتمع حالة الفقر والبطالة، حالة الفقر والبطالة لها تداعيات اجتماعية في حياة الإنسان ولها تداعيات سلوكية على المجتمع وبالتالي تؤثر في صنع تاريخ المجتمع وتؤثر في بناء ذلك المجتمع نفسه، هنا الجبرية التاريخية ترى من خلال ذلك أن المجتمع هو صنيعة الأحداث، ولكن المدرسة الربانية تنظر إلى القضية نظرة أعمق وأدق لأنها ترى أن ما يمكن أن يكون هو السبب في القول بالجبرية التاريخية ما هو إلا من صنع الإنسان، إرادة الإنسان هي التي صنعت الفقر، إرادة الإنسان هي التي صنعت البطالة، وهكذا إرادة الإنسان هي التي أثرت على مسيرة المجتمع. لماذا؟ لأن الإنسانية إذا شذت عن القوانين العادلة والمتوازنة وإذا انحرفت عن التشريع الإلهي سوف تتورط في مشاكل، هذه المشاكل لها آثارها الوضعية تترك آثارها وتداعياتها على نفس المجتمع ويشعر المجتمع وكأنه مسيّر من قبل تلك العوامل، بينما هذه العوامل التي تسير المجتمعات ما هي إلا من صنع ذلك الإنسان، بإرادة الإنسان تحققت ومن خلال انحرافه عن الخط تحققت، فاذن لا توجد جبرية وإنما إرادة الإنسان هي التي تصنع للإنسان الخير وهي التي تصنع للإنسان الشر، هي التي تبني له مستقبلاً مشرقاً وهي التي يمكن أن تبني له مستقبلاُ أسوداً وقاتماً. إذن لا توجد جبرية في المدرسة الربانية، المدرسة الربانية لا تؤمن بأن الإنسان كائن منفعل تلعب به العوامل ويكون كالريشة في مهب الريح تتداعى عليه العوامل المختلفة، وإنما المدرسة الربانية ترى أن الإنسان هو الفاعل، هو الذي يصنع كلّ شيء، فإذا تكبل المجتمع وقيد بقيود معينة تحدد مسيرته وتطبع بصماتها عليه فهذه القيود هي من صنع الإنسان وبإرادة الإنسان، هو الذي قيد نفسه بهذه القيود لا أن العوامل هي التي تحكمت فيه وإنما الإنسان ينظر إليه في المدرسة الربانية على أنه هو الفاعل في القضايا لا أنه هو المنفعل. إذن نخلص من كلّ ذلك إلى أن القيمة التي أعطيت للإنسانية في المدرسة الربانية قيمة لا يمكن أن تضاهى بأية قيمة أعطيت في المدارس الوضعية لأن ما أعطي في المدارس الوضعية هو إما قيمة كاذبة لا تقوم على أساس موضوعي، وإما تصور يتدنى بالإنسانية إلى مستويات هابطة في تقييمه للإنسان، بينما المدرسة الربانية أعطت للإنسانية تلك القيمة العظيمة، منحتها ذلك الدور الكبير دور خلافة الله سبحانه وتعالى على الأرض. والمهم في كلّ ذلك أن النظرة الدينية، والتصور الديني للإنسانية تصور متوازن أولاً ويقوم على أساس موضوعي ثانياً وهذا أمر تفتقده الكثير من المدارس الفكرية الوضعية.
والحمد لله رب العالمين.
_________________
(*)محاضرة ألقيت على جمع من المثقفين في بغداد بتاريخ 16/11/1424هـ.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد