الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور المحاضرات
المنظومة الفكرية (*)تتميز حياة الإنسان بأنها حياة واعية هادفة يحتك من خلالها الإنسان بالواقع ويتفاعل فكره مع الواقع، وهو مجبول على التفكير وعلى اكتشاف الحقائق ومحاولة الربط بين الظواهر وبالتالي فان الكيان الإنساني كله مبني على أساس الاستنتاج والاستدلال، فكل أعمال الإنسان وتصرفاته تخضع لمجموعة ومنظومة من المفاهيم والتصورات، ولهذا لا نجد مجتمعا من المجتمعات تبتني تصرفات أفراده وسلوكياتهم على أساس عشوائي، وإنما كل المجتمعات سواء أكانت تركيبتها الاجتماعية معقدة أو كانت تركيبتها الاجتماعية بسيطة وساذجة كل هذه المجتمعات تمتلك مجموعة من المفاهيم والتصورات عن الحياة وعن علاقات الإنسان بالإنسان وعلاقات الإنسان بالطبيعة وعلاقات الإنسان بالرب. كل مجتمع يمتلك مثل هذه المنظومة الفكرية، ولكن هذه المجتمعات تختلف فيما بينها في عمق التصورات التي تستبطنها وفي شمولية المفاهيم وفي قدرتها على استيعاب اكبر قدر ممكن من التفسير لظواهر الطبيعة والحياة ولما يمكن أن يحرك المجتمع. لا تكاد تجد مجتمعا ليست له فلسفة عن الكون والحياة سواء أكانت هذه المجتمعات متحضرة متمدنة أو كانت مجتمعات غير متحضرة ولا متمدنة. فإذن كيان الإنسان كله يبتني على الاستنتاج والاستدلال والتفكير ومحاولة فلسفة الأشياء والظواهر والخروج من احتكاك الإنسان بالواقع بمجموعة من المفاهيم والتصورات على أساسها تتحرك مسيرة هذه المجتمعات الإنسانية.
ولكن هناك ثلاث مشاكل رئيسة أصيبت بها كل هذه المجتمعات في حركتها وفي سيرها الفكري، يمكن أن نتحدث بقدر موجز عن كل مشكلة من هذه المشاكل وبالتالي نبين ما هو الطريق الأمثل للخروج من هذه المشاكل ومعالجتها.
المشكلة الأولى مشكلة التجزيئية والمحدودية في الفكر. والمشكلة الثاني مشكلة انفعالية الأفكار والتصورات. والمشكلة الثالثة هي الازدواجية والفصل بين البناء والقاعدة الفكرية.
وحينما نستقرئ واقع كل المجتمعات سواء أكانت معاصرة أو كانت مجتمعات تمتد تاريخياً في عمق التأريخ من خلال دراستنا لتاريخها الإنساني نجد أن غالبية هذه المجتمعات، جل هذه المجتمعات إن لم يكن الكل قد أصيب حسب درجات متفاوتة بهذه المشاكل الثلاث. والدين قدم أطروحة يمكنها أن تخلص هذه المجتمعات من هذه المشاكل، لان هذه المشاكل أساسا ترتبط بالمنظومة الفكرية لهذه المجتمعات والتي تستقيها هذه المجتمعات من بنات أفكارها ومن واقع تجربتها ومن احتكاكها بحياتها المعاشة، ليست هي افكاراً وتصورات تنزل عليها من السماء وإنما هذه المنظومة الفكرية التي تصاب بهذه المشاكل هي منظومة يبنيها الإنسان نفسه من واقع فكره ومن واقع تجربته.
أما المشكلة الأولى وهي التجزيئية والمحدودية في الفكر، فما من قضية من القضايا إلا ولها أوجه متنوعة وترتبط مع مجموعة من القضايا بعلاقة، كل قضية سواء أكانت بسيطة أو معقدة ومهما مست تلك القضية حياة الإنسان في جانب من جوانبها، كل فكرة قد تكون فكرة توليدية وقد تكون خميرة لأفكار توليدية يعني منها تتولد الأفكار، كل فكرة من هذا القبيل هي فكرة متعددة الجوانب ومتعددة الاتجاهات، متشعبة الاتجاهات ولها وجوه مختلفة. وعقل الإنسان مهما بلغ من العبقرية والنبوغ والرقي والسمو يبقى هذا العقل محدوداً في قدرته على استيعاب جوانب كل قضية والإحاطة بأوجه كل فكرة، وإنما الإنسان إذا بذل قصارى جهده يستطيع أن يتلمس بعض الروابط بين الأفكار ويستطيع أن يكتشف بعض هذه العلائق ويستطيع أن يحيط بجانب من الجوانب، وأما استيعاب جوانب كل فكرة فهذا أمر يخرج عن قدرة الإنسان سواء أكان فرداً أو جماعة وبالتالي عقل الإنسان الذي يبتني على أساس الاستدلال والاستنتاج هو عقل محدود في قدرته على استيعاب الأفكار المترابطة فضلاً عن الأفكار التي يكون الترابط فيما بينها ضعيفاً أو خفياً. فالأفكار المترابطة التي يكون الترابط فيما بينها قوياً قد لا يستطيع الإنسان أن يستوعب كل هذه الأفكار مرة واحدة فكيف بالأفكار التي يكون الترابط فيما بينها ضعيفاً أو خفياً أو بوسائط فكرية متعددة. والذي ينشأ من ذلك هو أن أي منظومة فكرية يبنيها الإنسان سواء من خلال التأمل والتعمق في التفكير أو من خلال إيحاءات الواقع المعاش أو من خلال التجربة العملية التي تنضج أفكار الإنسان، كل هذه الأفكار تبقى افكاراً محدودة غير مستوعبة وتكون النتائج نتائج هذه الأفكار أيضاً نتائج محدودة ونتائج تجزيئية. هناك فلسفات قامت على أساس شمولي مثلاً المادية الديالكتيكية كتفسير للكون والحياة، لظواهر الطبيعة ولحركة التاريخ ولسير المجتمعات، المادية الديالكتيكية تمتلك تفسيراً شمولياً لكل هذه القضايا ولكنها على الرغم من ذلك ابتليت ومنيت بمحدودية في التفكير أدت إلى محدودية في النتائج فهي بنت كل ذلك أي كل تفاسيرها للحياة والتاريخ والمجتمع على أساس نظرية العامل الواحد واعتبرت العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد الذي يحرك التاريخ ويقود مسيرة البشرية ويؤثر في المجتمعات، وهو الذي يمكن أن يكون تفسيراً شمولياً لكل هذه القضايا، فنجد أن مثل هذه الفلسفة على الرغم من شموليتها وعلى الرغم من سعيها لان تكون مستوعبة لكل حركة المجتمع والتاريخ، للكون والحياة إلا أنها قامت على أساس تفسير محدود يلخص كل ذلك بالعامل الاقتصادي. الرأسمالية التي آمنت بالملكية الفردية كأساس، نظرت إلى الأمور نظرة تجزيئية ولم تستطع أن تربط بين مجموعة القضايا التي تنظم حياة الإنسان فرداً أو جماعة ولهذا جاءت نتائجها على شكل محدود وتجزيئي. المذهب الفكري الذي يؤمن بالحرية المطلقة للإنسان هو أيضاً فكرة بشرية صيغت، ولكنها صيغت من عقل محدود لا يستطيع أن يستوعب كل ما يحيط بمسألة الحرية من أفكار تتعلق بمجموع وضع الإنسان وحياة الإنسان، فهي أي حياة الإنسان ذات معادلات دقيقة كما سنشير إلى ذلك ولهذا جائت النتيجة نتيجة تجزيئية محدودة نظرت إلى جانب من جوانب الحقيقة وإلى وجه من وجوه الواقع ولم تستطع أن تستوعب كل الجوانب ولا أن تحيط بكل الوجوه والاتجاهات. وهكذا بالنسبة للمذاهب الفكرية والاتجاهات الفكرية الأخرى، كل هذه الاتجاهات الفكرية التي قامت على أساس فكر الإنسان أو على أساس معطيات التجربة أو على أساس معايشة الواقع كل هذه الفلسفات لم تكن فلسفات مستوعبة وإنما جائت بأفكار تجزيئية وبمعطيات محدودة تتحدد بحدود عقل الإنسان وبمدى قدرة هذا العقل على استيعاب جوانب القضايا. كلما استطاع هذا العقل وهذا الفكر أن يستوعب قدراً أكبر من القضايا المتشابكة والمترابطة كلما استطاع أن يأتي بنتائج أقرب إلى الواقع، ولكن تبقى كل هذه النتائج معلولة لفكر محدود، وهذا أمر طبيعي لان فكر الإنسان فكر محدود. فاذن المشكلة الأولى هي مشكلة المحدودية والتجزيئية للفكر، وهذه مشكلة عامة لا تختلف فيها الفلسفات والمذاهب الفكرية سواء أكانت فلسفات متطورة متحضرة أو كانت فلسفات جزئية وبسيطة وساذجة، بل على العكس الفلسفات الساذجة، الفلسفات البسيطة عادةً تكون أكثر محدودية لان ذلك العقل الساذج يكون أشد في محدوديته وفي قدرته على الاستيعاب، قدرته على الاستيعاب تكون محدودة جداً.
وأما انفعالية الفكر فلا شك في أن الإنسان يحتك بالواقع ولا شك في أن فكر الإنسان يتفاعل مع الواقع ولا شك في أن ذهن الإنسان يتفاعل مع الواقع وبالتالي من خلال معايشة الواقع يستطيع هذا الإنسان أن يكوّن مجموعة من التصورات. فاذن الواقع يكون مصدراً من مصادر الإلهام بالنسبة للفكر الإنساني، والتجربة هي مصدر من مصادر الإلهام. وحينما أتحدث عن التجربة لا أتحدث عن التجربة التي تعتبر مصدراً للعلم الطبيعي وإنما أتحدث عن التجربة التي تكون مصدراً للإلهام في الفكر الإنساني في غير القضايا العلمية الطبيعية، وإنما في خلق المنظومة الفكرية في خلق ثقافة المجتمع، لان منظومة كل مجتمع فكرياً تعبر عن ثقافة ذلك المجتمع، فمعايشة الإنسان للواقع تجعل هذا الواقع مصدراً من مصادر الإلهام لفكر الإنسان، ولهذا يستمد هذا الإنسان كثيراً من أفكاره من خلال هذه المعايشة ومن خلال التجربة الإنسانية التي يمر بها. هذه الحالة فيها جانب إيجابي لان الإنسان لابد أن يتفاعل مع واقعه المعاش ولابد أن يستفيد من التجربة، وفكر الإنسان لا يمكن أن يتطور إلا من خلال هذا التفاعل وإلا من خلال هذه الممارسة التجريبية. ولكن فيها جانباً سلبياً أيضاً إذا لم يصحح فسوف يخلق للمنظومة الفكرية للمجتمعات البشرية مشكلة كبيرة بل سيخلق لها أزمة فكرية وعملية معاً، الجانب السلبي هو جانب تأثر الفكر بالواقع المحدود هذا الذي أسميناه بمشكلة انفعالية الفكر. هنا لا نعني بانفعالية الفكر تفاعل الفكر مع الواقع، لأن تفاعل الفكر مع الواقع هو الوجه الإيجابي للقضية. ولا نريد بانفعالية الفكر أن يتصرف الإنسان فكرياً تصرفاً مبنياً على أساس العاطفة، وإنما نعني بانفعالية الفكر تأثير ذلك الواقع في صياغة هذا الفكر الإنساني بحيث يكون هذا الفكر الإنساني فكراً منفعلاً بالواقع، وحينما يكون هذا الفكر منفعلاً بالواقع يصاب بمشاكل كبيرة. نضرب لذلك بعض الأمثلة التوضيحية، العلمانية التي اتجهت إليها أوروبا وبنت نهضتها على أساسها، هذه العلمانية فكرة مستمدة من الواقع فهي ليست فكرة موضوعية وإنما هي فكرة انفعالية لا أنها فكرة عاطفية، وإنما هي فكرة انفعالية كان الواقع المعاش مصدراً لإلهامها وكان الواقع المعاش هو السبب الذي خلق هذه الفكرة، ولهذا فهي فكرة من وحي ذلك الواقع ومن تأثير ذلك الواقع، حينما رأى الناس ممارسات الكنيسة التعسفية ورأى الناس أن هذه الممارسات أصبحت سبباً في انتكاستهم تأثروا بهذا الواقع فخلق لهم هذا الواقع فكرة العلمانية، ففكرة العلمانية ليست فكرة موضوعية بمعنى أن الإنسان قد استمدها من خلال فلسفة عامة مستوعبة للكون والحياة، وإنما هي فكرة استمدها واستفادها من خلال واقع معاش اثر فيه وخلق عنده هذا التصور وخلق عنده هذه الفكرة. الديمقراطية أيضاً فكرة يمكن أن تصنف على أنها من الافكار الانفعالية بمعنى أن واقع الاستبداد وسلبيات واقع الاستبداد هو الذي خلق للإنسان نقيض الاستبداد الفكري. النقيض الفكري للاستبداد هو الديمقراطية، فالديمقراطية إذن بشكلها الذي آلت إليه كتطبيق سياسي واجتماعي فكرة ونظرية استمدها الإنسان من واقع معاش ومن خلال احتكاكه بسلبيات واقع معاش، هذه السلبيات أحدثت هذه الفكرة وصارت مصدراً من مصادر الإلهام بالنسبة لهذه الفكرة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى مجموعة من النظريات والأفكار التي قامت عليها حضارات بشرية. هذه الحضارات قامت على أساس أفكار انفعالية لا على أساس عواطف وإنما على أساس أفكار تأثرت بالواقع، كان الواقع هو الذي يخلق نقيض ما كان معاشاً ويكون مصدراً من مصادر الإلهام لفكرة تناقض ذلك الواقع المعاش. هذه الحالة تخلق أزمة فكرية وعملية للإنسان لانها قد تعطيه فكرة محدودة وقد تعطيه وصفة مؤقتة لا يمكن أن يستمر معها على الشوط الطويل وعلى المدى الطويل هي فكرة انفعالية محضة، وهذه الأفكار الانفعالية كثيراً ما تكون أفكاراً خاطئة وكثيراً ما تكون أفكاراً متطرفة. مثلاً الفلسفة الوجودية الحديثة لاسيما الاتجاه (السارتري) في الفلسفة الوجودية هذا الاتجاه يقوم على أساس نظرية تعتقد بان كل ما يوجد في المجتمعات من قوانين، من قيم، من مثل، من موازين، كل هذه القيم والموازين والقوانين ليس لها أي رصيد موضوعي، وإنما هي من خلق الإنسان. وآمن الاتجاه (السارتري) بأصالة الإنسان وأراد من المجتمعات أن تكسر ما اسماه بالجبرية الاجتماعية، وآمن حينئذ بالحرية المطلقة للإنسان في أن يفعل ما يريد وفي أن يقول ما يريد وفي أن يتصرف كيف يشاء، وبالتالي انعكس هذا الأمر على تفسير الوجودية للعدل والعدالة فكانت العدالة بالمفهوم الوجودي عبارة عن حرية الإنسان في أن يفعل ما يريد. وكيف يمكن أن تكون هذه عدالة؟، ولكن هذه الفكرة ما هي إلا رشحة من رشحات نظرية انفعالية قامت على أساس التأثر بالواقع بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وما خلقته وأوجدته هذه الحرب من مآسي وفضائح ونكسات أوجدت حالة شعورية لدى قطاع من المفكرين في أن هذه الحياة اذن ليس فيها موازين، ليس فيها مثل، لا يوجد فيها أساسا مثل أعلى، وإنما هي رغبات وإرادات تتصارع وبالتالي قالوا بما اسمي بالوجودية في اتجاهها (السارتري). هذه الوجودية نظرية انفعالية كان الواقع المعاش مصدراً من مصادر إلهامها.
المشكلة الثالثة: مشكلة الازدواجية في الفكر والفصل بين البناء والقاعدة الفكرية. هناك مجتمعات آمنت بفلسفات شمولية للكون والحياة وأقامت للإنسان قاعدة فكرية تحكم تصرفاته وتضبط سلوكه، ولكن الذي حصل هو الازدواجية بين النظرية وبين التطبيق فلم تبن هذه التفاصيل على أساس القاعدة الفكرية التي جائت بها تلك الفلسفة. هذا أوجد هـوة بين عملية البناء وبين القاعدة الفكرية التي لابد أن يشاد عليها ذلك البناء، وهذه تخلق أزمة في أي مجتمع من المجتمعات حينما ينفصل هذا المجتمع عن قاعدته الفكرية معنى ذلك تحول كل قيم تلك الفلسفة وكل مُثل تلك الفلسفة، تتحول هذه القيم والمثل إلى أفكار نظرية مجردة بحتة لا تمتلك أي تطبيق عملي مشهود، وقد تتحول إلى محض شعارات، وهذا ما حصل أيضاً للماركسية التي انفصل تطبيقها عن بنائها العقائدي وعن الفلسفة التي أقيمت عليها، وكان هذا العامل من أهم عوامل سقوط النظرية الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي ككيان سياسي، من أهم العوامل كان هو حالة الازدواجية والفصل بين القاعدة الفكرية وبين البناء في تفاصيل الحياة.
هذه المشاكل الثلاث محدودية وتجزيئية الفكر، انفعالية الفكر، ازدواجية الفكر، هذه مشاكل عامة تبتلى بها كل المجتمعات التي لا تقيم حياتها على أساس الدين، وإنما تستمد قيمها ومفاهيمها وتصوراتها تستمد كل ذلك من وحي أفكارها ومن خلال تفاعل الفكر مع الواقع فتبتلى حينئذ بهذه المشاكل، بينما المجتمعات والحضارات التي تقام وتبنى على أساس قيم الدين ومثل الدين ومثل السماء وشريعة الله سبحانه وتعالى والبرنامج العملي الذي يقدمه الأنبياء للإنسانية، هذه المجتمعات إذا أصيبت بمثل هذه المشاكل فإنما تصاب بها في وجهها البشري يعني في فهمها البشري للدين، وإلا من حيث الخطوط العريضة لا تبتلى بهذه المشاكل، لأن الدين يقوم على أساس معادلات دقيقة، كما أن الطبيعة لها معادلات دقيقة تحكمها وتحكم ظواهرها، وهناك قوانين طبيعية صارمة بحيث إذا تخلف قانون من هذه القوانين حينئذ لا يستقر حجر على حجر، كذلك حياة الإنسان وحياة المجتمعات تبتني على معادلات دقيقة، وتبتني على قوانين دقيقة، هذه القوانين لا يستطيع عقل الإنسان المحدود أن يدركها وان يستوعبها جميعاً، قد يدرك شيئاً منها، قد يدرك بعض وجوهها، قد يحيط ببعض أوجه الارتباط فيما بينها، ولكنه يعجز عن إدراك تفاصيل هذه المعادلات الدقيقة.إن الذي يمكنه أن يصوغ حياة الإنسان على أساس هذه المعادلات الدقيقة هو خالق الإنسان ومدبر الكون الذي وضع هذه المعادلات والذي أوجد هذه المعادلات والذي أقام هذه القوانين. كما أن هذا الكون يحفظ من خلال معادلات دقيقة أوجدها الله سبحانه وتعالى، كذلك حياة الإنسان تنتظم من خلال تلك المعادلات الدقيقة. ولهذا فإن التشريعات السماوية التي جائت بها الأديان السماوية هذه التشريعات تبتني على أساس هذه القوانين وهذه المعادلات الدقيقة التي من خلالها تنتظم حياة الإنسان. ولهذا فإن المجتمعات التي تعتمد في بناء حضارتها على الدين وعلى معطياته وعلى تشريعاته لا تبتلي لا بمشكلة التجزيئية والمحدودية في الفكر ولا بمشكلة انفعالية الفكر، نعم تطالب بان لا تفصل بين البناء وبين القاعدة الفكرية، ولهذا مجتمعاتنا الإسلامية حينما انفصلت عن قاعدتها الفكرية التي أقامها الدين انتكست وتردت أوضاعها، بينما هذا الدين استطاع أن يخرج العرب في الجزيرة العربية من مجتمع جاهلي بدائي إلى ذلك المجتمع الذي أشاد حضارة إسلامية كبرى تعتبر حلقة مهمة في الحلقات الحضارية لتاريخ البشرية على طول الخط، وبالتالي حتى هذه الحضارة الأوروبية إنما أقيمت على أساس تسلسل تلك الحلقات الحضارية والتي كان من أهمها الحلقة الحضارية الإسلامية. كيف حصل ذلك؟ حصل حينما امتزج الناس بتشريعات دينهم. ولكن بعد أن حصلت الازدواجية وحصل الفصل بين البناء والقاعدة الفكرية تردت الأوضاع وفقد المسلمون حضارتهم وفقدوا كيانهم السياسي الذي كان لهم وتردت أوضاعهم حتى سيطر عليهم غيرهم وفاق عليهم غيرهم وبذهم وتقدم عليهم. فإذن الدين يمتلك فلسفة شمولية مستوعبة للكون والحياة وعلى أساسها توجد هناك تشريعات إلهية مبنية على تلك المعادلات الدقيقة التي من خلالها تنتظم حياة الإنسان، ولهذا كل المجتمعات مدعوة إلى الالتزام الديني، فالالتزام الديني ليس مجرد علاقة تربط بين الإنسان وبين خالقه، بين الإنسان وبين ربه، وإنما الالتزام الديني يعبر عن ذلك البرنامج العملي الذي من خلاله يستطيع أن يعيش الإنسان حياة سعيدة يتجه فيها نحو الكمال المنشود ويحقق حالة التوازن في كل شيء، التوازن بين الدنيا والآخرة، التوازن بين الروح والمادة، التوازن بين العقل والعاطفة، وكل الثنائيات التي تحتاج إلى توازن تتحقق من خلال الالتزام بتشريعات الله سبحانه وتعالى. وفي عملية الاجتهاد ضمانة، صحيح أن الاجتهاد قد يصيب وقد يخطئ ولكن ما دامت عجلة الاجتهاد في حركة دائبة فكل خطأ قابل للتدارك، كثير طبعاً من هذه الأخطاء أخطاء تطبيقية يعني يصاب بها الإنسان من خلال التطبيق ولكن لو فرض أن بعض الأخطاء ناشيء من نحو الفهم ومن طريقة التصور ومن آلية الاستنباط إلا أن إدامة عجلة الاجتهاد هي الكفيلة بتصحيح الخطأ واثراء الفكر الديني بالشكل الذي يقدم للإنسانية مجموعة من البدائل الاجتهادية يمكن أن تأخذ منها ما يتناسب ومرحلتها، ما يتناسب وطبيعتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_____________
(*)محاضرة ألقيت على جمع من المثقفين في بغداد بتاريخ 9/11/1424هـ.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد