الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور المحاضرات
حوار الأديان (*)قال تعالى في محكم كتابه المجيد: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 64] .
تمر ذكرى ولادة سيدنا المسيح عليه السلام . هذا النبي له منزلة خاصة عند الله سبحانه وتعالى، وقد اقترن وضعه بالمعجزات قبل ولادته وحين ولادته وبعد ولادته، حتى أن حياته على الرغم من قصرها تميزت بالكثير من المعاجز، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعضها، كما انه في نهاية الشوط اقترن وضعه أيضاً بالمعجزة حيث لم يصلب ولم يقتل وإنما بالإعجاز رفع إلى السماء.
ولهذا في مثل هذه الذكرى خاصة حينما تكون هذه الذكرى متصلة بأتباع للسيد المسيح يعيشون مع المسلمين في وطن واحد وتحت سقف واحد وتجمعهم روابط وثيقة ويجمعهم مصير مشترك، ويمكنهم أن يواجهوا التحديات بشكل مشترك، لا بد من الاهتمام بمثل هذه الذكرى ومن تسليط الأضواء عليها، وبالتالي لابد من أن نحاول أن نتطرق إلى موضوع له أهمية بالغة فيما يرتبط بهذا المجال.
من الواضح أن الدين الإسلامي الحنيف هو دين عالمي وهو دين توحيدي ويهدف إلى إدخال الناس جميعا في إطاره، وبالتالي إن دعوة الإسلام لا تختص بالكفار المشركين أو الملحدين، وإنما دعوة الإسلام شاملة للناس جميعاً، يدعى إلى الإسلام الملحد والمشرك ويدعى إلى الإسلام الكتابي أيضاً. على الرغم من ذلك إلا أن الإسلام اتخذ موقفين أساسيين من الديانات السماوية يعبر هذان الموقفان عن ذروة مرونة هذا الدين وعن حقانيته أيضا.
الموقف الأول: اعترافه بالديانات السماوية التي سبقته، وبالتالي تعامل مع أتباع هذه الديانات تعاملا يختلف تماما عن التعامل الذي جرى مع المشركين. فالمشرك على سبيل المثال لم يقره الإسلام على ما هو عليه من الشرك مطلقاً وضيق عليه الخناق، ولكنه مع الديانات السماوية الأخرى سلك مسلكا آخر ملؤه التسامح، فاعترف رسمياً بوجود هذه الديانات وحريتها وإمكانية التعايش معها، ولهذا اعتبر أهل الكتاب من أهل الذمة الذين يمكن أن تعقد معهم ذمة ويقرون على ما هم عليه من ديانتهم ويحترم دمهم ومالهم وعرضهم وكنائسهم، وضمن لهم حياة آمنة حرة مستقرة في أحضان المجتمع المسلم، وهذا أمر جدير بالاهتمام من دين يرى انه هو الحق وانه خاتمة الأديان. فالإنجيل مثلا حتى هذا الإنجيل المتداول ليس فيه حتى بنحو الإشارة والتلميح إلى أن السيد المسيح هو آخر الأنبياء، ليس فيه ذلك، ولو كان السيد المسيح آخر الأنبياء لأشير إلى ذلك في الأناجيل ولكانت مصلحة أتباعه التركيز على هذه القضية بعمق، مع انه ليس في جعبتهم شيء من ذلك، والإنجيل المتداول، الأناجيل الأربعة المتداولة خالية من أية إشارة أو تلميح فضلاً عن التصريح بأن الديانة المسيحية هي خاتمة الأديان، بينما الإسلام يصرح في أدبياته كتاباً وسنة بأنه آخر الأديان وانه خاتم الأديان، مع ذلك لم يتعامل مع ما سبقه من ديانات يفترض أن يكون ناسخاً لها ومعدلاً لها وان كان مصدقاً لما بين يديه منها إلا انه على الرغم من ذلك تعامل مع تلك الديانات بالتسامح ولم يتعامل طبق منهج إلغاء الآخر، فاعترف بتلك الديانات. وهذا شاهد صدق على حقانية الإسلام وعلى انه دين ينتسب حقيقة إلى الله، الإسلام اعترف بهذه الديانات واعترف بان موسى وعيسى J نبيان بعثا من قبل الله سبحانه وتعالى وجاءا بدينين سماويين وبالتالي أعطى لتلك الديانات مصداقية خاصة حينما اعتبر الإسلام انه مصدق لما بين يديه من تلك الديانات التي سبقت عليه.
فإذن المسلك الأول الذي سلكه الإسلام هو الاعتراف بهذه الديانات وإقرار مبدأ التعايش مع هذه الديانات والاعتراف بها بشكل رسمي كديانات يقبلها كيان الإسلام السياسي والاجتماعي.
والأمر الثاني: الذي قام به الإسلام وجسده رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) وانعكس في أدبيات الإسلام في القرآن وفي الأحاديث الشريفة هو فتح مبدأ الحوار مع تلك الديانات ومحاولة التأكيد على القواسم المشتركة. القرآن الكريم فتح الحوار حتى مع الكفار وحتى مع المشركين وحتى مع عابدي الوثن، والنبي (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) حاور أولئك الكفار والمشركين وعباد الأوثان، ولكن هناك امتياز للحوار الذي فتحه الإسلام مع الديانات السماوية عن الحوار الذي فتحه الإسلام مع المشركين، فالحوار الذي فتحه الإسلام مع المشركين كان يستهدف فقط وفقط هدايتهم إلى الإسلام وإلى التوحيد دون أن يدخل معهم في أية آلية مشتركة وإنما عزل نفسه عنهم تماماً وحدد مبدأ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فلا يوجد قاسم مشترك بين المسلمين وبين المشركين دينياً. ولكن الحوار الذي فتحه الإسلام مع الديانات السماوية في نفس الوقت الذي أكد فيه على ضرورة الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) والإيمان بالإسلام هذا الدين الخاتم إلا انه في اتجاه آخر فتح معهم الحوار في ضمن القواسم المشتركة وفي إطار القواسم المشتركة ومن اجل عمل مشترك بين هذه الديانات السماوية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 64] فهو يدعوهم إلى كلمة سواء إلى كلمة مشتركة إلى موقف مشترك، وهذه ميزة يمتاز بها الحوار الذي فتحه الإسلام مع الديانات السماوية، هذه الميزة تلقي علينا مسؤولية وثقلا في أن يستمر هذا الحوار الذي يسمى الان وفي العرف الدولي والعالمي بحوار الأديان. صحيح أن حوار الأديان يضيق تارة ويتسع تارةً أخرى لان المحاور قد يكون من دين سماوي يقره الإسلام وقد لا يكون من دين سماوي يقره الإسلام، إنه يمكن فتح الحوار مع الأديان الأخرى حتى لو لم تكن سماوية، ولكن نريد في هذا المجال أن نؤكد على ضرورة استمرار خط الحوار مع الديانات السماوية باعتبار هذه الميزة الخاصة الذي يستبطنها هذا الحوار وهو إمكانية أن يكون هناك موقف مشترك مع هذه الديانات ومن خلال الموقف المشترك يمكن أن يكون هناك عمل مشترك. حوار الأديان فكرة من الناحية الحضارية تعبر عن مستوى راقٍِ من الحوار الحضاري وهي في وضعها الحديث تعتبر فكرة حديثة، ولكننا حينما ننطلق في دعوتنا إلى حوار الأديان فإننا ننطلق من تحليل خاص للوضع الديني وتقييم الوضع الديني في المجتمع البشري في القرن الذي مضى وفي هذا القرن الذي دخلناه حديثاً، هذا التقييم هو الذي جعلناه المنطلق في الحوارات التي أجريناها مع كبار رجال الدين المسيحي في بعض البلاد العربية.
المجتمع البشري في بدايات القرن العشرين وإلى الثلث الأخير من القرن العشرين كان يشهد ظاهرة التراجع في الالتزام الديني، ظاهرة ضعف التدين سواء عند المسلمين أو عند المسيحيين أو عند الديانات الأخرى. هذا أمر يعبر عن حقيقة تدعمها الإحصائيات وتدعمها الأرقام الموثقة ويدعمها التوثيق التاريخي. هناك في تلك الفترة ضعف كبير وواضح في الالتزام الديني وتراجع للحالة الدينية على صعيد المجتمع البشري ككل. هذا الضعف في الالتزام يمكن أن يعلل بثلاث تعليلات. تعليل سياسي، وتعليل ثقافي، وتعليل ديني، يعني له ثلاثة أسباب: سبب سياسي، وسبب ثقافي، وسبب ديني.
أما السبب السياسي فالعالم شهد في مطلع القرن العشرين ظهور كيان سياسي عقائدي إلحادي يقوم على أساس المادية الديالكتيكية كتفسير للكون والحياة والتاريخ والإنسان، وبالتالي هذا الكيان السياسي الذي تمثل بما سمي بالاتحاد السوفيتي والصين كان يمتد عالمياً فلم يقتصر على المنطقة التي نجح فيها هذا الكيان في إيجاد دولة له، وإنما حاول أن يمتد عالميا عبر ما يسمى بالأحزاب الشيوعية التي اقتحمت كل زوايا العالم تقريباً. هذه الأحزاب كانت تحمل الأطروحة السياسية بيد وتحمل الأيديولوجية العقائدية الخاصة بها باليد الأخرى، فهي لم تكن تبشر ببرنامج سياسي وحسب، وإنما كانت تبشر بعقيدة تقوم على أساس الإلحاد وتعرّف الدين على انه أفيون الشعوب كما اشتهرت مقولة (لينين) في ذلك الوقت، وبالتالي كان لهذا الكيان السياسي موقف سلبي جدا من الأطروحة الدينية، لا انه يريد عزل الدين، عن السياسة فقط، وإنما يريد كنس الدين من المجتمع بمعنى انه يحارب مبدأ التدين ويبلّغ ويروّج لزيف ظاهرة التدين، ويرجع ظاهرة التدين إلى أسباب وإلى تفسيرات مادية بحتة بعيدة كل البعد عن أي ارتباط غيبي سماوي، لان هذه الأطروحة لا تعتقد بوجود شي اسمه الله سبحانه وتعالى، فإذن هذا الكيان السياسي إمتداداته والثقافة التي أوجدها ونشرها في كل أنحاء العالم تركت أثرا كبيراً على الالتزام الديني للمجتمع البشري ككل وكانت سببا مهماً من أسباب التراجع للحالة الدينية عالمياً، خاصةً وان هذا الكيان السياسي بدأ يرفع شعارات براقة تغري الطبقات الواسعة في المجتمع، فهو يحارب الفقر وهو يحارب التمايز الطبقي وهو يحاول أن يلغي أي تمايز اجتماعي طبقي بين الناس ويبشر بحياة متساوية يشترك فيها جميع الأفراد في كل اوضاعهم الحياتية والمعيشية، الأمر الذي جعله يكسب كثيراً من الطبقات التي كان يسميها بالطبقات الكادحة، فإذن هذا الكيان السياسي صار سبباً رئيسياً من أسباب تراجع الحالة الدينية عالمياً.
السبب الثاني: وهو السبب الثقافي والعلمي هو أن العالم كله بدأ يشهد تطوراً علمياً نوعياً بحيث أصبح التطور العلمي على شكل قفزات علمية تطل كل يوم على العالم بشيء جديد، بتقدم جديد، بمظهر جديد. هذا التطور العلمي في بداياته أوجد توهماً لدى الكثيرين بان العلم يمكنه أن يعالج كل مشاكل الإنسان وبالتالي يفسر ظاهرة التدين في كثير من مناشئها على أنها ظاهرة تمتد لترتبط بالغيب من اجل التغلب على صعاب الحياة فإذا استطاع العلم أن يتغلب على صعاب الحياة لم يبق مبرر للالتزام والتمسك بما هو غيب، بالتالي لا معنى لأن نجعل للغيب وصاية علينا إذا كان لدينا تطور علمي يمكن أن نبني حياتنا على أساسه. هذا الوهم الذي اتسع وامتد ولّد فكرة الصدام بين العلم والدين وكأن هناك تناقضاً، وكأن هناك جدليةً بين العلم والدين. هذه القضية أثّرت كثيراً على الالتزام الديني بحيث اصبح التدين ظاهرة رجعية يوصف بها المتخلفون وتعتبر من سمات التخلف في أي مجتمع من المجتمعات. وهذا هو سبب ثقافي بمعنى أن الانبهار بالتطور العلمي أوجد حالة من الغلو في العلم وصلت إلى حد تأليه العلم بالشكل الذي جعل العلم بديلاً عن الدين وبديلاً عن الالتزام الديني والتمسك الديني.
السبب الثالث: الذي قلنا عنه انه سبب ديني مؤسسي يكمن في أن المؤسسة الدينية سواء أكانت مؤسسة مسيحية أو مؤسسة إسلامية واجهت تحديات العصر بشكل فاجأها، يعني هذه المؤسسة لم تكن مستعدة أساسا لمواجهة تحديات كبيرة كالتحدي السياسي والثقافي اللذين أشرنا إليهما قبل قليل، فوجئت هذه المؤسسة الدينية بوضع جديد لم تكن قد تطبعت عليه ولم تكن قد أهلت نفسها لمواجهته. ولهذا كان الخطاب الديني قاصراً عن إقناع شباب ذلك العصر ومثقفي ذلك العصر بصحة الأطروحة الدينية وعدم تناقضها مع العلم تارةً، وحقانيتها في صراعها مع أيديولوجيات الإلحاد. هذا القصور في الخطاب الديني أوجد حالة من التراجع، وكان سبباً من أسباب التراجع. لم توفق المؤسسة الدينية في أن تطرح للناس برنامجاً حياتياً يتناسب مع معطيات العصر ومع متطلبات العصر. ولهذا نجد حتى أبناء العوائل الدينية في مجتمعاتنا انجرفوا مع الأحزاب السياسية العلمانية لأنهم لم يجدوا فيما يقدم إليهم باسم الدين - مع انهم أبناء عوائل دينية - لم يجدوا فيما يقدّم إليهم باسم الدين ما يمكن أن يقنع عقولهم بالشكل الذي يجعلهم يعيشون حياةً متوازنة، فكراً متوازناً بين ما يريده الدين وما يريده العصر، بين متطلبات التدين ومتطلبات الحداثة، فأصبحت هناك فجوة بين الأصالة والمعاصرة، فإما أن تتمسك بالأصالة وتبتعد عن المعاصرة، واما أن تتمسك بالمعاصرة وتبتعد عن الأصالة بحيث أصبحت ثنائية الأصالة والمعاصرة ثنائية جدلية تقوم على أساس التناقض بين الأمرين، مع انه في حقيقة الحال لا يوجد أي تناقض بين هذين الأمرين، لكن الخطاب الديني كان قاصراً إلا في حالات استثنائية وعلى يد أشخاص استثنائيين وبجهد ذاتي، وأما من حيث المجموع وبالشكل العام كان الخطاب خطاباً كلاسيكياً تقليدياً بعيداً عن قدرته على إقناع الناس.
هذه الأسباب الثلاثة أدت إلى تراجع الحالة الدينية لدى المجتمع البشري عالمياً وأدت إلى انتكاسة خطيرة في الوضع الديني. ولكن في الثلث الأخير من القرن العشرين تغيرت هذه المعادلة تماماً، أما السبب السياسي فإنه فقد كل فاعليته لأن المجتمع البشري ومن خلال عدة تجارب وتطبيقات للشيوعية في العالم كلها فشلت وكلها لم تستطع أن تحقق ولم تستطع أن تكون حتى على مستوى الشعارات التي رفعتها وصل إلى وضوح في أن هذه الأطروحة فاشلة، وسقط الاتحاد السوفيتي في مهده وفي عاصمته وأدى انهياره إلى انهيار الأطروحة معه، فالذي انهار لم يكن هو الكيان السياسي فقط وإنما انهارت معه القاعدة الفكرية التي قام على أساسها هذا الكيان بالشكل الذي جعل الأحزاب الشيوعية في العالم كله ولاسيما في عالمنا الإسلامي تعيد النظر في هذا الفكر وتحاول أن تجري مصالحة بين الشيوعية والدين فتحذف من الشيوعية الجانب الذي يقف موقفاً سلبياً من الدين لتحتفظ ببقايا من ذلك الفكر الشيوعي على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد الاجتماعي. فالمادية الديالكتيكية في الواقع سقطت بسقوط ذلك الكيان السياسي الذي لم يكن يسقط لولا مجموعة من التداعيات، ولولا فشله الذريع في كل النواحي، وكان من أهم هذه النواحي صدامه مع الدين. وهذا الأمر الذي اعترف به كورباتشوف نفسه الذي سقط هذا الكيان على يده حينما قال: (من أهم أسباب فشل الاتحاد السوفيتي هو محاربة الله) وهو الذي أدى إلى فشل هذا الكيان وفشل القاعدة الفكرية التي قام عليها هذا الكيان. فالسبب السياسي الذي أدى إلى الابتعاد عن الدين انتهى وفقد فاعليته.
وأما السبب الثقافي فقد اتضح شيئاً فشيئاً للناس جميعا أن العلم مهما تطور فانه لا يغطي إلا الحاجات المادية للناس، ولكن يبقى هناك ظمأ روحي وتبقى هناك حاجة أخلاقية ويبقى المجتمع بحاجة إلى القيم وبحاجة إلى المثل، وهذا أمر لا يقدمه سوى الدين، فان الذي يبني الأخلاق والذي يعطي المثل والذي يرسخ القيم هو الدين. العلم أفاد الإنسانية بلا ريب وقدمها وطورها وهو أمر ضروري لا يمكن للإنسانية أن تتقدم بدونه، ولكن اتضح أن الإنسانية التي تريد أن تمشي على العلم وحده فسوف تمشي برجل عرجاء. فإذاً هذا السبب أيضاً فقد بريقه وفاعليته، واتضح أيضاً انه لا يوجد أي تصادم بين الدين الصحيح وبين الحقائق العلمية الثابتة وانما يمكن أن يكمل أحدهما الآخر وكلاهما يسيران في خط تكاملي، ولا تزال كلمة ذلك العالم الطبيعي الكبير الذي قال (كلما ضعف إيماني دخلت إلى المختبر لتقويته) ذات صدى مؤثر، لان الحقائق العلمية الصحيحة تقوي الدين وتفعّل العنصر الديني لا أنها تصطدم معه.
وأما السبب الديني، فهذه المؤسسة الدينية التي فوجئت بتحديات اكبر من وضعها ومما هي مستعدة له طورت نفسها وطورت خطابها، وبالتالي استطاعت أن تقدم البديل المناسب الذي يمكن أن يقنع طبقة المثقفين ويمكن أن يقنع الأجيال المعاصرة بغض النظر عن تخبطات البعض وقراءاتهم المغلوطة.
فإذن دخلنا القرن الواحد والعشرين، دخلنا الألفية الثالثة بمعادلة جديدة تماماً. في الوقت الذي كانت فيه الحالة الدينية آخذةً بالتراجع، في الوقت الذي شهدنا فيه ظاهرة الانتكاسة الدينية، تبدل الأمر وأصبح المجتمع البشري مقبلاً على التدين وعلى الالتزام بالهوية الدينية، أما في عالمنا الإسلامي فالأمر واضح جداً باعتبار أن كل دوائر القرار اعترفت بوجود ما سمي حينها (بالصحوة الإسلامية) أسموها الصحوة الإسلامية حيث حصل إقبال منقطع النظير على الالتزام بالإسلام وعلى العودة إلى الإسلام وعلى إعادة مجد الإسلام وعلى التمسك بالإسلام كدين يشمل كل مناحي الحياة. وظاهرة الإسلام السياسي ما هي إلا إفراز من إفرازات الصحوة الإسلامية ونتاج من نتاجات تطور الوضع الديني والالتزام الديني وقوة الظاهرة الدينية في المجتمع بحيث تحولت إلى مطالبة بإسلام سياسي بمعنى أن يكون الحكم أيضاً حكماً دينياً. واما في العالم الآخر فإننا نجد أن إقبال المسيحيين على الكنيسة وعلى قراءة الإنجيل وعلى التدين إقبالاً كبيراً سجلته إحصائيات الكنائس نفسها، وبالتالي لنا وضع جديد، بعنى أن المجتمع البشري له وضع جديد انتعشت فيه الظاهرة الدينية وتم فيه إحياء الدين مرة ثانية وعودة الدين إلى الحياة وإلى التأثير على الحياة. في مثل هذه الحالة إذا لم يتوفر المناخ الذي يستوعب هذا الالتزام الديني سوف يتحول هذا الالتزام الديني إلى تطرف ديني وهذا التطرف سيكون النقيض لمبدأ التعايش بين الديانات في العالم وسيخلق لنا انقساماً في المجتمع البشري وسيخلق لنا صراعاً بين الناس وبين اتباع الديانات يتخذ أوجهاً عديدة. فما المطلوب؟. المطلوب أن يهيأ المناخ المناسب للتعايش بين الديانات، هنا يبرز مشروع حوار الأديان ويكون منطلق حوار الأديان من هنا. نحن انطلقنا في طرحنا لمشروع حوار الأديان على أساس تلك الخلفية، على أساس ذلك التحليل والتقييم للوضع الديني في القرن العشرين وما وصل إليه الوضع الديني في مطلع الألفية الثالثة ومن خلال تقييمنا للحالة الدينية عالمياً انطلقنا في مشروعنا حول حوار الأديان. حوار الأديان لابد أن يتخذ خطوات بدونها يبقى حوار الأديان مجرد شعار يرفع مع أننا نريد لحوار الأديان أن يتحول من مرحلة الشعار إلى ترجمة عملية في الواقع وعلى أرض الواقع.
الخطوة الأولى: - أن يحصل حوار بغرض التعرف، تعرف الأديان على بعضها البعض. هناك أفكار قد تكون مشوهةً لدى اتباع كل ديانة، لهم أفكار مشوهة عن الديانة الأخرى، يعني المسيحيون لهم أفكار مشوهة عن الإسلام هناك غموض هناك إلتباس في فهم الإسلام وهناك تشويه متعمد للمغرضين. وفي الطرف المقابل أيضاً هناك أفكار خاطئة يحملها المسلمون عن الدين المسيحي أو عن المسيحيين عموماً، من تلك الأفكار الخاطئة فهمنا للتثليث. لاشك أن التثليث أمر باطل، لاشك أن مبدأ التثليث مرفوض لكن هناك فرق بين أن يرفض مبدأ التثليث على أساس انه شرك وانه يصطدم مع عقيدة التوحيد وبين أن نرفض مبدأ التثليث على أساس انه مبدأ لا يعبر عن واقع الصلة بين الله وبين المسيح، هناك فرق بين الأمرين. كثير من المسلمين يفهمون التثليث على انه شرك وعلى انه يمثل واقع الشرك، مع أن الشرك معناه القول بتعدد الآلهة والمسيحيون الملتزمون بالتثليث لا يقولون بتعدد الآلهة لا يرون أن المسيح اله في مقابل الله وإنما يعتبرون المسيح التجسد المادي لله نفسه. وهذا لا يعني تعدد الآلهة وإنما هو إله واحد وهو الله سبحانه وتعالى، هذا الإله الواحد تجسد في شخص المسيح فكأن السيد المسيح هو الوجود المادي لله على الأرض وهذا أمر غير تعدد الآلهة. كثير من المسلمين يفهمون التثليث على انه تعدد للآلهة وهناك الله وهو الرب وهناك اله آخر وهو الابن، مع أن المسيحيين لا يقولون بتعدد الآلهة وإنما يعتقدون بأن دينهم دين توحيدي وأنهم يؤمنون بمبدأ التوحيد، وإنما يقولون بالتجسيد ولا يقولون بتعدد الآلهة. فهذه قضية ذكرناها على سبيل المثال كمثال على الغموض الذي لدى قطاع كبير من المسلمين حول الديانة المسيحية. نعم هناك مفارقات في نفس الدين المسيحي، هناك مفارقات في الفكرة التي تطرح عن الصلة بين الله وبين السيد المسيح، ولكن ليس معنى وجود هذه المفارقات أن الديانة المسيحية بشكلها الحالي هي ديانة غير توحيدية، وإنما هي ديانة توحيدية. إذن هذا اللبس كيف يرتفع؟ هذا اللبس يرتفع من خلال الحوار الذي يستهدف معرفة الآخر، أن يعرف المسيحي حقيقة الإسلام وحقيقة المسلمين وان يعرف المسلم حقيقة المسيحية والمسيحيين وهكذا بالنسبة للأديان الأخرى. فإذن الخطوة الأولى التي يمكن أن تعتبر آلية لحوار الأديان هي معرفة بعضنا البعض.
الخطوة الثانية: - الوقوف على المشتركات. الديانة المسيحية ديانة سماوية، والإسلام دين سماوي، ولا بد أن تكون هناك مشتركات بين هاتين الديانتين. وعلى الرغم من التحريف الذي طرأ على الديانة المسيحية فيما بعد إلا أن هذا التحريف لم يطل كل الدين المسيحي وإنما طال بعض الدين المسيحي وبقي البعض من الدين المسيحي على ما جاء به السيد المسيح. فإذن لابد أن تكون هناك مشتركات فيما بيننا، لابد أن نتعرف على هذه المشتركات، المشتركات العقائدية،المشتركات التشريعية، المشتركات الأخلاقية. كما أننا في خطوة ثالثة إذا استطعنا أن نعيد قراءة المسيحية والإسلام من زاوية موضوعية مجردة ومن أفق جديد اعتقد إننا سنكتشف قدراً اكبر مما هو غير مكتشف لحد الآن من المشتركات بين هاتين الديانتين وبين الديانات السماوية الأخرى. فإذا وسعنا دائرة المشتركات نستطيع أن ننطلق من خلال هذه المشتركات النظرية إلى مواقف عملية مشتركة لاسيما على الصعيد الأخلاقي. مثلا الإسلام يحارب فساد الأخلاق والمسيحية أيضاً كديانة تحارب فساد الأخلاق، يمكن للمسيحية وللإسلام أن يتخذا مواقف عملية مشتركة في تطهير المجتمع البشري من الفساد الأخلاقي. هذا أمر ممكن. ظاهرة العولمة تحمل لنا في ضمن ما تحمله من إيجابيات تحمل لنا بعض السلبيات، الدين له دور كبير في مواجهة سلبيات العولمة، وبالتالي من خلال المشتركات الموجودة بين الأديان السماوية يمكن أن تتخذ مواقف عملية مشتركة في مواجهة سلبيات العولمة. الإسلام يحارب الفقر والمسيحية أيضاً تحارب الفقر، الإسلام يدعو إلى الفضائل والمسيحية أيضاً تدعو إلى الالتزام بالفضيلة، وهذا يمكن أن يوحد المواقف بين اتباع الديانتين وبين المؤسستين الدينيتين لصالح كل المجتمع البشري.
فإذن حوار الأديان يبحث عن القواسم المشتركة وينطلق في شرعيته يعني يستمد شرعيته من الإسلام نفسه لان الإسلام دعا إلى حوار الأديان، والإسلام بالنسبة إلى الديانات السماوية أراد لهذا الحوار أن ينطلق من القواسم المشتركة وان يفعّـل هذه القواسم المشتركة، ولهذا دعا تلك الديانات إلى كلمة سواء، بينما مثل هذه الدعوة لا نجدها في الإسلام بالنسبة إلى المشركين، لا نجدها في الإسلام بالنسبة إلى الديانات غير السماوية، بينما نجدها في الإسلام بالنسبة إلى الديانات السماوية، ويذهب القرآن بعيدا ليصحح ما عليه المتدينون من أتباع تلك الديانات السماوية {لَهُم أجرُهُم عِندَ رَبهم} [البقرة: 262] هذا ورد في أكثر من آية وفي كل الآيات التي تعرضت إلى أهل الكتاب لم يزج القران أهل الكتاب مع المشركين وإنما دائماً في هذه الآيات جعل القرآن عنوان أهل الكتاب عنوانا قسيما لعنوان المشركين، فالذين أشركوا هم غير أهل الكتاب، غير الذين هادوا، غير النصارى، غير الصابئين.
فإذن نفس هذا التقسيم يدل على أن الإسلام ينظر إلى هذه الديانات السماوية نظرة مختلفة عن تلك العقائد الإلحادية أو عن تلك الديانات الوثنية أو عن تلك الديانات التي لا تمت إلى السماء بصلة. ولهذا يمكننا أن ننطلق ومن أدبيات إسلامنا لنفعّـل مشروع حوار الأديان من اجل أن نقف على القواسم المشتركة بيننا وبين هذه الديانات لننطلق من خلال هذه القواسم المشتركة إلى عمل مشترك. والفقه الإسلامي أيضاً باعتبار وجود عنصر الاجتهاد فيه يستطيع أن يساهم إسهاماً كبيراً في تفعيل هذا الحوار ويستطيع أن يساهم إسهاماً كبيراً في إقرار مبدأ التعايش وفي إعطاء المنهج لمبدأ التعايش بين أتباع الديانات السماوية، الفقه الإسلامي له القدرة على ذلك. صحيح أن الصورة الفقهية التي تعطى لأهل الكتاب أعني الصورة القديمة يعني ما بحثه الفقه في القرون المتقدمة وطريقة تناوله للعلاقة مع أهل الكتاب قد يكون فيها شيء من الصرامة، ولكن لا يعني ذلك أن هذه الصورة التي قدمت على يد الفقهاء السابقين هي الصورة النهائية الثابتة التي لا يمكن أن تتغير في معطياتها وفي نتائجها وفي أحكامها. مثلاً كان لبعض فقهائنا فتوى تقول بأن أهل الذمة لا يحق لهم لا بناء الكنائس ولا تعمير ما يتهدم منها أو ما يكون في معرض الهدم لقدمه. ولكن إذا أردنا أن نفعّـل عنصر الاجتهاد في القضية لاشك في أن هذا الفهم إنما يعبر عن فهم أولئك الفقهاء للنصوص الشرعية أو فهمهم لطريقة عقد الذمة، لكننا إذا وضعنا قضية اعتراف الإسلام بهذه الديانات وإعطاء هذه الديانات صفة رسمية في المجتمع المسلم فعليه يجب أن يكفل الإسلام حرية العبادة للمسيحيين ولليهود في المجتمع المسلم، أن يحترم الإسلام شعائر هؤلاء يعني يعتبرها شعائر محترمة لا يجوز للإنسان المسلم أن يتعدى عليها، فالإسلام لا يجيز التعدي على الكنيسة ولا يجيز الاعتداء على أي مظهر مقدس لتلك الديانات. إذا وضعنا هذه الحقائق إلى جنب بعضها البعض نجد أن القول بمنع المسيحي من بناء الكنيسة أو تجديدها يعتبر مفارقة كالشخص الذي تبيح له أن يأكل من الطعام ولكنك كلما أراد أن يدخل طعاما إلى جوفه تمسك يده وتمنعه من أن يلتقم تلك اللقمة، هذه مفارقة. لا يمكن أن يعترف الإسلام بديانة ويقر حرية ممارسة الشعائر ثم يعطل هذه الشعائر. يعني لو فرضنا مدينة ليس فيها إلا كنيسة واحدة للمسيحيين يقيمون فيها صلاتهم، إذا تهدمت هذه الكنيسة المسيحيون الموجودون على الأرض لا يمكن أن نقول لهم نحن نحترم ديانتكم ونبيح لكم ممارسة طقوسكم وشعائركم ولكننا نمنعكم من بناء الكنيسة، إذن أين يمارس هذا المسيحي شعيرته؟ لو قلبنا الصورة، المسلم الذي يريد أن يصلي في المسجد فيأتي المسيحي ويقول أنا احترم الإسلام ولكن لا أبيح لك أن تبني مسجدا لتصلي فيه أليست هذه مفارقة؟. فإذن من خلال تفعيل عنصر الاجتهاد نستطيع أن نصل إلى نتائج جديدة تتجاوز تلك الصياغات والأطر التقليدية الموجودة في فقهنا القديم لنعطي فتاوى وأحكام جديدة تساعد على إقرار مبدأ التعايش الذي اقره الإسلام. وهكذا الأمر فيما يتعلق بمواطنة الذمي وهل انه مواطن من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية وهل انه يستطيع أن يستلم مناصب عالية في المجتمع المسلم أولا يستطيع، هناك نظرة تقليدية فقهية قديمة يمكن تجديدها وتفعيلها من خلال الاجتهاد لنصل إلى أحكام وفتاوى جديدة في معطياتها تجعلنا نتجاوز تلك الأطر التقليدية التي أصبحت في عالم اليوم وفي عالم العولمة أموراً توجب الخلة على الدين نفسه وتضع العصي أمام تكريس التعايش البشري. والعالم كله أصبح قرية واحدة أو كالقرية الواحدة، فلا يمكن في عالم من هذا القبيل أن يأتي الفقيه بأحكام فقهية تعرقل مسيرة هذه اللحمة البشرية الواحدة. وأحكام الإسلام فيها ما هو ثابت وفيها ما هو متغير، وكثير من الاجتهادات لم تميز بين ما هو ثابت وبين ما هو متغير، وحسبت بعض ما هو متغير جزء من الأحكام الثابتة، بينما إذا أعدنا النظر في أدلة تلك الأحكام، وإذا درسنا واقع تلك الأحكام نجد أنها ليست من الأحكام الثابتة وإنما هي في ضمن الأحكام المتغيرة التي تتطور بتطور الزمان والمكان.
نكتفي بهذا القدر وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
______________
(*) محاضرة ألقيت على جمع من المثقفين في بغداد بتاريخ 2/11/1424هـ.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد