الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

المحاضرات

المنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي (*)

تنويه
أحسب أن هذهِ السطور العجلى أقرب إلى المقالة منها إلى البحث أو الدراسة، ذلك أنني شرعت في كتابتها في 5 - 3 - 2008 وهو اليوم الذي وصلتني فيه الدعوة الكريمة من معالي وزير الأوقاف رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق للحضور والمشاركة في أعمال المؤتمر العشرين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مرفقة بالورقة المتضمنة لمحاور موضوع «مقومات الأمن المجتمعي في الإسلام»، وكان عليّ أن أقدم مشاركتي في مدة لا تتجاوز أربعة أيام، ولذا لم يكن أمامي وقت كاف لكتابة بحث أو دراسة حول موضوع حيوي كهذا الموضوع المتشابك والمترامي. ومن ثم فإنني أستميح القارئ الكريم عذرا إن لم يجد في هذه السطور ما كنت أريده لها تناولا للموضوع ومساهمة في مؤتمر موقر كهذا المؤتمر. لكنني أرجو لهذهِ السطور أن تكون مقاربة أولية وإطلالة من عل كمن حلّق على مدينة عظيمة من أعالي الجو، عسى أن تسعفني الفرصة لاحقاً للكتابة في هذا الموضوع كما أحب لقارئي أن يقرأني وبالله التوفيق.
المنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي
بما أن الإنسان مدني بالطبع، فانه يندفع بطبعه للارتباط بأبناء جنسه وإقامة علاقات متشابكة ومشتركة معهم. وهكذا يتم تشكيل وبناء المجتمعات.
على ان تشكيل وبناء المجتمعات لا يتم فقط بدافع فطري وإنطلاقاً من شعور نفسي بضرورة التآلف في مجاميع إنسانية، وإنما هو أمر يدركه الإنسان السوي بحكم إدراكه لما تفرضه ضرورات الحياة ومقتضياتها مهما كانت طبيعة تلك الحياة ساذجة وغير مركبة.
وهكذا يتفاعل العامل الوجداني مع العامل الموضوعي ليشكل الانطلاقة نحو بناء المجتمع. وهكذا تبدء اللبنة الأولى مجسدة في الأسرة والعائلة التي تتسع نحو العشيرة والقبيلة، ثم العلاقات الأوسع خارج دائرة القربى حتى تصل إلى المجتمع المركب التي يبلغ درجة من التعقيد قد يتحول بمستواها إلى كيان سياسي مقتدر لا تجسده دول عادية وإنما تجسده إمبراطوريات، وإلى كيان مجتمعي يتجسد في تمدن راق وحضارات عتيدة.
إن البناء المجتمعي بدء من مراحله ودرجاته الأولية والبسيطة وحتى مراحله ودرجاته المتعاظمة لا يمكن أن يقوم ويتواصل إلا من خلال الأمن المجتمعي وفي حاضنته. ولذا فان الإنسان ككائن بشري يُدخل الأمن المجتمعي عنصراً جوهرياً في كل عمليات بنائه الاجتماعي من الأسرة إلى الدولة، ومن البداوة إلى الحضارة. وهكذا الأمر على المستوى الأفقي سواء في البعد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي.
ولهذا يصح أن يقال انه لا مجتمع من دون أمن مجتمعي، ولا يستقر للحياة البشرية حجر على حجر إلا تحت مظلة الأمن المجتمعي وفي حاضنته. إن النزوع إلى الأمن المجتمعي يتلازم مع النزوع إلى الحياة الاجتماعية.
إن الفوضى دائماً حالة طارئة على طبيعة المجتمعات، ولذا فإننا نجد أن الإنسانية في شوطها الممتد تكافح وتناضل دائماً من أجل تحقيق النظام والاستقرار والأمن.
وفي دراسة أي مجتمع من المجتمعات نجد أن موضوع الأمن المجتمعي يدخل على الدوام في الاثنوميثودولوجي «منهجية الجماعة» لأي مجتمع.
لا شك في أن النظام الاجتماعي هو أساس تشكيل الجماعة وهو محور علم الاجتماع. ومسألة الأمن المجتمعي تدخل في صميم النظام الاجتماعي بناءً واستمرارية. كما أنها ترتبط بمسالة الاتساق العام الذي لابد أن تعيشه أي جماعة من البشر صغيرة كانت أم كبيرة.
إن النظام الاجتماعي كما تقرر في علم الاجتماع يقوم على أساس الضبط الاجتماعي الذي بدونه لا يمكن إضفاء طابع الاستقرار والاستمرار على العلاقات الاجتماعية، وهذا ما يرتبط ارتباطا وثيقا بمقولة الأمن المجتمعي.
إن الحالات الشاذة والطارئة التي لا تتسق والأمن المجتمعي كظواهر تعيشها المجتمعات تؤكد - من خلال كونها طارئة ومن خلال عدم انسجام أبناء المجتمع بشكل عام معها - على أن الأمن والنظام الاجتماعي متلازمان.
إن أي نظام اجتماعي يحتاج إلى ركيزتين أساسيتين: -
الأولى: - مفاهيم وقيم تعبر عن ثقافة تؤسس للنظام الاجتماعي.
الثانية: - قوى على المستوى الاجتماعي والفردي تنهض بالنظام الاجتماعي وتحفظه.
والشيء ذاته ينطبق على موضوعة الأمن المجتمعي، فهو بحاجة إلى ركيزتين:
الأولى: - مفاهيم وقيم تعبر عن ثقافة تؤسس للأمن المجتمعي.
الثانية: - قوى على المستوى الاجتماعي والفردي تنهض بالأمن المجتمعي وتحفظه.
إن الأنماط السلوكية دائماً تنبثق من ثقافة الجماعة، وبهذا يكون تعاطي أية جماعة مع موضوعة الأمن المجتمعي منبثقاً من ثقافة تلك الجماعة في إطارها العام، وفي تصوراتها عن الأمن المجتمعي.
وهكذا تتقرر حقيقة أنّ النظام الاجتماعي بحاجة إلى منظومة فكرية ومعيارية يشاد على أساسها البناء. وان الأمن المجتمعي لابد لاستتبابه من منظومة فكرية ومعيارية، ولا مجال للحديث عن أمن مجتمعي إلا بالحديث عن المنظومة الثقافية لذلك الأمن وقاعدته الفلسفية.
إن الحديث عن المنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي لا ينحصر بالأفكار والقيم التي تعتبر بمثابة آليات لتحقيق الأمن في المجتمع وعوامل في استتبابه، وإنما هو في جوهره حديث عن التصورات والقيم التي يحملها الإنسان فرداً أو جماعة في فهمه للأمن المجتمعي وأسس تحقيقه من خلال فلسفة متصلة بالحياة.
عناصر المنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي: -
لابد لنا ونحن ندرس ثقافة الأمن المجتمعي أن نحلل العناصر الأساسية التي تؤلف هذهِ الثقافة.
وأعتقد أنها أربعة عناصر: -
1. الوجدان الداخلي والضمير الفردي والجمعي. ولا أقصد بالضمير الجمعي ما يراه دوركايم من أنه التصورات والعواطف الشائعة بين الأفراد الذين يكونون غالبية الجماعة، وإنما أعني به الميول والنوازع الوجدانية في الكيان الداخلي للفرد بوصفه واحداً من كل.
2. مدركات العقل العملي.
3. التصورات التي يكونها الإنسان فرداً وجماعة من خلال المعايشة والتجربة.
4. الثقافة الدينية التي تصوغ شخصية الإنسان - فرداً أو جماعة - منهجاً فكرياً وسلوكياً.
وتتجسد هذهِ العناصر المتفاعلة في الأسس والمحاور التالية: -
1. القواعد الاجتماعية التي تضبط سلوك الأفراد في المجتمع.
2. القوانين والتشريعات التي تنظم سلوك الجماعة.
3. التقاليد والأعراف الاجتماعية.
4. الرؤية التي يحملها الأفراد في تعاطيهم الاجتماعي.
وقبل أن أتناول العناصر المؤلفة لثقافة الأمن المجتمعي أودّ التأكيد على ما يلي: -
1 - إننا نرفض الاتجاه الذي يتسق والمدرسة الوضعية في تحليل ثقافة الأمن المجتمعي والذي ترك بصماته على بعض نظريات علم الاجتماع التي تفلسف النظام الاجتماعي والاتساق العام فيه، ونرفض ما يقوله رموز المدرسة الوضعية من أن الفلسفة الوضعية هي الأساس المتين والوحيد لإعادة التنظيم الاجتماعي.
ولا أريد أن أدخل في مناقشة التصورات التي تتبناها المدرسة الوضعية، فليس هنا محل ذلك، وانما أردت ان أؤكد على أن نظرتنا التحليلية إلى العناصر التي تؤلف ثقافة الأمن المجتمعي ترفض الأحادية التي تفرزها الفلسفة الوضعية، وإن كنا نقبل بضرورة الاهتمام العلمي بالظواهر الاجتماعية، وبأن التجربة الاجتماعية هي عنصر أساسي من عناصر المعرفة والثقافة التي تنبثق منها الأنماط السلوكية للجماعات البشرية دون أن ننحاز إلى أمبيريقية لا تملك ما تصمد به أمام مناقشات المدرسة الفلسفية الإسلامية ومتبنياتها في نظرية المعرفة.
ولهذا فإننا في الوقت الذي نؤكد فيه على أن التصورات التي يكونها الإنسان فرداً أو جماعة من خلال المعايشة والتجربة هي عنصر أساسي في تكوين المنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي فإننا نؤكد على وجود معيارية تستند إلى الوجدان الداخلي والضمير الجمعي وإلى مدركات العقل العملي وهي أمور سابقة على الواقع الموضوعي والتجربة المعاشة، كما نؤكد على حاجة المجتمع إلى الوحي والتوجيه الرباني والدور الحقيقي الذي يلعبه الدين في النظام الاجتماعي والاتساق العام.
2 - إننا لا نرى في النظرة التي تنطلق من الوجودية بشكل عام والوجودية السارترية بشكل خاص ما يعتبر أساسا علميا يعتمد في تحليل عناصر ثقافة الأمن المجتمعي. فنحن نرفض تفسير الإنسان على أساس وحدة الذات والموضوع التي تتقمص الوجود كواقع لا عقلي وما يترتب على ذلك من اتجاهات تقوم على أساس التفسير الظواهري البحت وما يفرزه ذلك من تفسير للمعيارية والنظر إلى حرية الإنسان والإرادة الإنسانية.
بل إننا نعتقد أنّ هذهِ الفلسفة في مدياتها الممتدة لا تساهم في بناء وتعزيز النظام الاجتماعي والأمن المجتمعي بقدر ما تساهم في احداث التفكك وخلخلة الأمن.
3 - إن نظرتنا التحليلية إلى مكونات ثقافة الأمن المجتمعي إذ تنطلق من تبني النظام المعياري فإنها لا ترفض النظام الواقعي بالكلية. فالنظام المعياري يرتبط بمجموعة من المعايير سواءً أكانت عبارة عن أهداف وغايات أو كانت شيئاً آخر من المعايير، والنظام الواقعي تكون الحالة الواقعية فيه خاضعة للأمبيريقية في التحليل.
وقد قرر بعض كبار علماء الاجتماع أن النظام الاجتماعي العام هو دائماً واقعي من حيث كونه قابلا للتحليل العلمي إلا أنه لا يمكن أن يحافظ على استقراره إلا بتوظيف فعال للعناصر المعيارية. وأود أن ألفت النظر بهذا الصدد إلى آراء العالم الاجتماعي بارسونز ونظريته في الحل المعياري.
ونحن نؤكد على ان العناصر المعيارية أساسية في تشكيل أي نظام اجتماعي فضلا عن استمراريته بحالة مستقرة وان العناصر المعيارية تلعب دوراً إيجابياً فاعلاً في ذلك بوجهها الايجابي كما تلعب دوراً سلبياً تخريبياً في ما إذا كانت هنالك معايير سلبية أو غير متوازنة.
نظرة عامة إلى مكونات ثقافة الأمن المجتمعي: -
إنّ الفلسفة التي يبني الإنسان فرداً وجماعة من خلالها نظامه الاجتماعي وأمنه المجتمعي لا تنفصل عن المؤهلات والاستعدادات الكامنة في النفس الإنسانية، وانما ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، وتشكل منطلقات وخامات أولية لها. ولهذا يصح أن يقال بان البشرية في خلقها قد صممت تصميما يجعلها تتجه نحو إيجاد النظام الاجتماعي، وهي كذلك صممت تصميما يجعلها تتجه نحو الأمن المجتمعي.
وإذا كانت ثمة حقيقة تقضي بأن الإنسان مدني بالطبع، وينساق نحو العلاقة بأخيه الإنسان وتشكيل المجتمع وبناء النظام الاجتماعي بدافع وجداني يدفعه تلقائياً نحو ذلك ويملأ شعوره وكيانه الداخلي بمجموعة من المشاعر التي تدفع به نحو هذا الاتجاه فنلمس النزوع إلى التآلف مع الآخرين والعلاقة المشتركة بهم وتوسيع دائرة هذهِ العلاقة، فان ثمة حقيقة بمستوى الحقيقة الأولى تقضي بان الإنسان ينشد الأمن المجتمعي وينساق نحوه بدافع وجداني يدفعه نحو ذلك ويملأ شعوره وكيانه الداخلي بمجموعة من المشاعر التي تدفع به نحو هذا الاتجاه فنلمس النزوع إلى الاستقرار والسكينة والنظام والاشمئزاز من الفوضى واللا أمن.
إن الوجدان الداخلي والضمير الجمعي يلعب دوراً كبيراً جداً في الأنماط السلوكية للأفراد والجماعات، وبالتالي فهو مكون أساسي من مكونات ثقافة الأمن المجتمعي.
وأما المكوّن الثاني وهو مدركات العقل العملي. فالعقل العملي كما هو واضح اصطلاح لدى الفلاسفة وعلماء الكلام يعبرون فيه عن إدراك الذهن لما ينبغي أن يكون. وهو الإدراك القيمي المعياري والذي تلخصه عبارة الحسن والقبح العقليين.
فهناك مدرسة فلسفية وكلامية مهمة طبعت بصمة قوية في الفكر الفلسفي والسياسي الإسلامي تذهب إلى أنّ العقل البشري قد صمم بنحو يتمكن معه وبصورة مستقلة أن يدرك الحسن والقبح بغض النظر عن أية ثقافة أخرى قد ينفتح عليها الإنسان في حياته. وكما أن النفس البشرية قد أودعت مجموعة من الميول والغرائز والنوازع، فان الذهن البشري قد أودع إدراكا معياريا وقيميا ثابتا لا يتغير بتغير الزمان والمكان والظرف، وهذا الإدراك المعياري يعتبر من الضمانات الأساسية التي حصّن الله تعالى بها الإنسان وهو يخوض غمار الحياة ويشق أمواجها المتلاطمة. وأن الشرع لا يتصادم بالمرة مع مدركات العقل العملي بل يكرسها ويدعمها ويتكئ عليها.
إنّ إدراك العقل حسن العدل وقبح الظلم مثلا هو إدراك مستقل عن أية ثقافة وأي مصدر وهو إدراك لا يتفاوت على مستوى المبدأ بتفاوت الزمان والمكان والظروف، وهو معيار قيمي يؤثر على الأنماط السلوكية للفرد والجماعة. وهكذا يكون العقل العملي عنصراً أساسياً في تكوين ثقافة الأمن المجتمعي لأنّ الأمن المجتمعي لا بد أن يستند إلى أنماط سلوكية يتصرف الإنسان من خلالها تصرفاً مستقيماً يلتصق بالعدل ويتنكب الظلم.
وإذا كانَ ثمة خلاف حول مسألة الحسن والقبح العقليين فانه لن يؤثر على النتيجة، ذلك أن مدركات العقل العملي سواءً أكانت مدركات مستقلة تعبر عن معارف أولية يختزنها الذهن البشري وينفتح عليها الإنسان بوعيه، أو لم تكن كذلك، وإنما تعبر عن قضايا يسميها المنطق الأرسطي بالمشهورات، فانّ معطيات العقل العملي بما تحمل من معيار قيمي عنصر أساسي مؤثر على الأنماط السلوكية للمجتمعات، فلا بد أن تدخل في تكوين ثقافة الأمن المجتمعي.
وأما التصورات التي يكونها الإنسان فرداً أو جماعة من خلال المعايشة والتجربة فهي عنصر يتحرك في السياق الطبيعي لحياة الإنسان، لان التجربة والواقع المعاش مصدر غني من مصادر المعرفة والثقافة الإنسانية، والإنسان كائن حي يتميز بالعقل والإرادة، ولا بد له أن يواكب في حياته بعقله ومعرفته وإرادته الأحداث ويقوم عبر ذلك بتكوين مفاهيم وتصورات تترك بصماتها وإسقاطاتها على سلوكه فتطفو على السطح أنماط سلوكية منبثقة من هذهِ التصورات.
ولعلّ الاتجاه إلى العقد الاجتماعي لتجنب الفوضى والتضارب والصراعات التي تضرب الاستقرار والهدوء والأمن ولتحقيق التماسك الاجتماعي وتكريسه من الأمور التي أحدثتها تصورات التجربة الحياتية والواقعية للإنسان الذي أدرك وهو يرتبط بعلاقات مع الآخر أنه لا بد من إيجاد قواعد تضبط سلوك الأفراد في تعاطيهم مع بعضهم وكل له مصالح وَمرامي وإرادات وقد يؤدي التعاكس في ذلك كله إلى صراعات تذهب بالأمن وتهدد النظام الاجتماعي فكان لا بد أن ينشأ عقد اجتماعي يضبط سلوك الناس ويقلل حالات العداء ويؤدي إلى سلام متبادل.
إنّ التصورات التي يكونها الناس من خلال المعايشة والتجربة وان كانت عرضة للتغيير وللخطأ إلا أنها في اتجاهاتها العامة تبني الأمن المجتمعي وتعززه وان لم تكن بمفردها قادرة على ضمانه.
ونأتي أخيراً إلى الثقافة الدينية كأحد أهم هذه العناصر. إنني أعتقد أننا لابد أن ننظر إلى هذا العنصر الحيوي من ثلاث زوايا أساسية: -
الزاوية الأولى: - دور الدين كدين في حياة الإنسان. حيث ان النزعة الدينية اقترنت بحياة الإنسان منذ فجر الخليقة، وهي على الصحيح تعبر عن اتجاه ونزوع فطري في الإنسان، وأنّ الحالات التي ينصرف فيها الإنسان عن ذلك هي حالات طارئة وشاذة وقد يشعر الإنسان الذي يمنى بها بأنه كمن يقوم بتجميد غريزة من غرائزه.
إن هذه النزعة الدينية تفرض على الإنسان ان يبني أنماطه السلوكية على ثقافة دينية، وهذا ما شهدته جل المجتمعات إن لم نقل كلها الأمر الذي يعني أن الدين له حضوره في ميادين بناء النظام الاجتماعي وما يرافقه من أمن مجتمعي.
الزاوية الثانية: - الدور الايجابي للأديان السماوية في بناء النظام الاجتماعي والأمن المجتمعي.
حيث إننا نعتقد بأنه لا يمكن لدين سماوي صحيح إلا أن يلعب الدور الايجابي في حياة الإنسان ويغرس فيه ويكرس القيم النبيلة والمفاهيم الصالحة وَيعمل على تربية المواطن الصالح. وهذا يعني أن الثقافة الدينية وما تستبطنه من معايير قيمية لا يمكنها إلا أن تساهم مساهمة فعالة في استتباب أمن مجتمعي سليم. وأنها بالفعل قد ساهمت في ذلك عبر التاريخ.
الزاوية الثالثة: - أثر القراءات الناقصة أو المغلوطة للأديان السماوية والمفاهيم والتصورات التي تضخها أديان غير سماوية أو محرفة أو باهتة في نسبتها إلى السماء على الأنماط السلوكية التي توجه حياة المجتمعات، حيث إنها إما أن تترك تأثيراً سلبياً على الأمن المجتمعي أو تجعل المجتمع كالبطة العرجاء من هذهِ الجهة.
إننا نريد التأكيد على أنّ المعرفة الإنسانية تنقسم إلى قسمين: -
الأول: - معرفة بشرية، يستمدها الإنسان فرداً أو جماعة من خبراته أو تراكماته المعرفية ومدركاته الأولية وانعكاسات الطبيعة والفطرة.
الثاني: - معرفة دينية يستمدها من معطيات الدين.
ولا يمكن للإنسان في حياته العملية أن ينفرد بقسم دون قسم أو على حساب قسم آخر، وإنما لا بد ان يتفاعل كلا القسمين في توجيه الإنسان، فلا الدين يلغي المعرفة البشرية ويتركها جانباً، ولا المعرفة البشرية يمكن أن تثري الإنسان وتغنيه عن الاستمداد من المعرفة الدينية. وهذا يعني أن ثقافة الأمن المجتمعي بحاجة ماسة إلى كل العناصر المكوّنة لها.
إنّ التأثير الذي يفعله الدين الصحيح في هذا المجال يمكن أن نلخص نقاطه البارزة فيما يلي وهي واضحة جداً في الدين الإسلامي الحنيف: -
1 - تقوية العامل الوجداني وتعزيز الضمير الفردي والجمعي والمحافظة على نقائه.
2 - صياغة الروح المطمئنة، فانّ أي نمط سلوكي يتسق والأمن المجتمعي يفترض أن يصدر عن نفس تلك المشاعر التي تجعلها تتجه في هذا الاتجاه. والدين من خلال قوة الإيمان ورسوخه وتأثيره السحري في النفوس وما يضفيه من سكينة وهدوء وحب للخير ونفرة من الشّر، واتصال بالمطلق وإيمان بالجزاء واليوم الآخر يكسب الإنسان روحاً مطمئنة ونفساً مستقرة.
3 - التشريعات التي يتضمنها الدين في تقنين سلوك الأفراد وسلوك الجماعة وتنظيم الحياة القائمة على النظام والأمن والعدالة. انظر إلى بديع مضمون قوله تعالى في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
فقد بينت الآية الكريمة أنّ الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب وإقرار الموازين هو قيام المجتمع بالقسط والعدل. فالدين يرمي إلى إقامة العدل في المجتمع وهو جوهر الأمن المجتمعي ومن آليات اقامة العدل التوجيه الرباني عبر التشريعات والنظام القائم على التوازن.
4 - المفاهيم التي يربي الدين أتباعه عليها ويصوغ شخصيتهم من خلالها فتنبثق أنماطهم السلوكية عن تلك المفاهيم وهي مفاهيم تؤصل الأمن المجتمعي. وتتسع هذه المفاهيم لتشمل المعايير الأخلاقية والقيمية التي يربي الدين عليها أتباعه.
وبما أننا نتحدث عن منظومة فكرية ومعيارية، لذا لم ندرج قوى الردع التي تضمن الأمن المجتمعي، لأنها ليست كقوة جزء من منظومة أفكار وإنما ترتبط بالسلطة التي يعطيها الدين للمجتمع للحفاظ على أمنه المجتمعي.
هذه لمحة موجزة عن المنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي.
وأكرر أنها في نظري ليست سوى مقالة تلقي إضاءة قد تكون خافتة على هذا الموضوع الحيوي الذي رأيت ضرورة أن تكون له تغطية لسّد فراغ في البرنامج المعدّ لأعمال هذا المؤتمر الموقر حيث أنه لم يدرج كمحور مستقل، ولم يدرج في مفردات المحور الأول بشكل منفصل، وإنما وضعت مفردة «القيم ودورها في الأمن المجتمعي»، وهي شعبة من الموضوع الذي تناولناه، وتدخل في الإطار العام للمنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي، ولهذا رأيت أن أتناول الإطار العام نفسه وأكون في الوقت ذاته قد تحدثت عن دور القيم في الأمن المجتمعي. النتائج: -
1. إن النظام الاجتماعي لا يمكن أن يبنى ويتواصل إلا من خلال الأمن المجتمعي وفي حاضنته، وان موضوع الأمن المجتمعي يدخل على الدوام في الاثنوميثودولوجي لأي مجتمع.
2. إن الجماعات البشرية تندفع إلى الأمن المجتمعي بحكم عاملين متفاعلين هما العامل الوجداني والعامل الموضوعي.
3. إن الأمن المجتمعي بحاجة إلى منظومة فكرية ومعيارية تؤسس له تستبطن المفاهيم والقيم المعبرة عن الثقافة التي تنبثق منها الأنماط السلوكية للمجتمعات.
4. إن العناصر المكونة للمنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي شاملة للنظامين المعياري والواقعي.
5. قامت هذه المقاربة بتقديم لمحة تحليلية لمكونات المنظومة الفكرية والمعيارية للأمن المجتمعي. وأوضحت الدور الحيوي والمحوري الذي يلعبه الدين في هذه المنظومة.
_______________
(*)قدمنا هذا البحث مشاركة منا في أعمال المؤتمر العشرين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية المنعقد في القاهرة بتاريخ 16 -19 - آذار 2008.

السابق

 

 

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com