الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور المحاضرات
النص الكامل لندوة «الآفاق المستقبلية للمشروع النهضوي عربياً وإسلامياً» (*)
الحلقة الأولى:
أشعر بسعادة بالغة تغمرني وأنا ألتقي بكم أيها الإخوة والأخوات في جمعية باسم النهوض الفكري، تُعِد أسس النهضة الحضارية التي لابد أن نخوض غمارها.
فأنتم أعمدة التنوير لهذه النهضة وطاقاتها الحضارية الخلاقة، والكفاءات التي على أكتافها يمكن أن تتحقق لنا هذه النهضة، ولهذا اخترت موضوع (الآفاق المستقبلية للنهضة العربية والإسلامية) لطرحه في هذا المكان ومع هذا الجمع، للتناسب الحيوي بين هذا الموضوع وبين أهدافكم التي تسعون لتحقيقها.
ربما يبدو الحديث عن النهضة العربية والإسلامية في ظل الظروف التي تكتنف الساحة الدولية عموماً والعالم العربي والإسلامي خصوصاً أشبه بأحلام اليقظة، فالواقع الذي نعيشه يصيب الإنسان بقدر كبير من الإحباط الذي يسد عليه كل المنافذ التي يمكن أن يرى من خلالها بصيص الأمل، ويقمع في داخله قدراً كبيراً من التفاؤل بنهضة عربية وإسلامية، بل يسلبه حتى الشجاعة المعنوية للحديث عن آفاق النهضة المستقبلية، ويظهر كلامه بمظهر من يهرب من الواقع إلى الأمام، بل قد ينعت كلامه بتخدير الحس وتزييف الوعي والاحتيال على الحقيقة. فكل ما حولنا يمنعنا من أن نفكر أو من أن نحلم بنهضة لهذه الأمة.
فعلى الصعيد الخارجي: يعيش العالم كله، وتعاني أمتنا من هيمنة خارجية رهيبة ومن قوى سياسية واقتصادية، لا أنها فقط لا تمتلك إزائنا حسن النوايا، وإنما مضافاً إلى ذلك تعمل بجد من أجل أن تعطل لدينا كل مقومات النهوض تحقيقاً لمصالحها في السيطرة على العالم وفي نهب ثروات امتنا على وجه التحديد. كما أن مسافة بعيدة تفصلنا عن ماضينا الحضاري التليد من جهة، وعن آخر معطيات التمدن المعاصر من جهة أخرى حيث نشهد حضارة تمتد في الوراء إلى قرون ولازالت تقفز قفزات نوعية في تطورها العلمي والتقني، بينما نحن لا نزال على عتبة تشكيل الحضارة فيما إذا أحسنا الظن بواقعنا الذي نعيشه.
وعلى الصعيد الداخلي: هذه امتنا بعرضها العريض تعيش جملة من التناقضات التي تستبطن قدراً كبيراً من الغرابة في أمة مثل أمتنا في إمكاناتها وتأريخها وكنوزها الفكرية وثرواتها الاقتصادية وموقعها الإستراتيجي!
واقع الانقسام والتشتت داخل الأمة، واقع الصراع بين قوى التقدم والتخلف ثقافيا في داخل الأمة، وكذلك عدم الانسجام بين شعوب هذه الأمة وحكامها، والأنكى من ذلك كله أننا أمة لا تمتلك الآن أطروحة متكاملة تقودنا نحو النجاة، ولا تمتلك قيادة مخلِصة مخلّصة.
كل هذا الواقع يجعلنا ويجعل كل فرد من أفراد هذه الأمة يشعر بالإحباط الكبير الذي اشرنا إليه.
ولكن يجب علينا أن لا نستسلم للتحدي، وأن لا نستجيب للمحاولات التي ترمي إلى أن نفقد ثقتنا بأنفسنا وطاقاتنا، والمحاولات التي ترمي إلى قتل النزوع الحضاري في داخلنا، والمحاولات التي ترمي إلى القضاء على حس المسؤولية التاريخية لأجيالنا. لابد أن نكون أكبر من الهزيمة وان لا نشعر بالهزيمة في داخلنا.
على أننا في ظل كل ذلك الواقع الذي رسمنا صورته القاتمة لابد ان ننظر إلى النصف المملوء من الكأس، فنحن امة تمتلك من الرصيد الثقافي ما يؤهلها لأن تدخل في حلبة الساحة الدولية عموماً حيث تفتقد بقية الأمم إلى قيم كقيمنا ومثل كمثلنا وطاقة روحية كالتي فينا، فنراها تتعطش إلى خطابنا إن أحسنا صياغته، وان أجدنا تقديمه إلى العالم، أضف على ذلك إننا إذا لم نشعر بالمسؤولية في أن نتحول من موقع الدفاع إلى موقع الاقتحام الفكري والسياسي، بل وحتى الاقتصادي في عملية نهضة شاملة فإننا سوف نبقى نتلقى كل المردودات السلبية في عالم يبنى ويصاغ من جديد في هذه الألفية الثالثة، وحينئذٍ سنجد أنفسنا خارج دائرة التأريخ بوجود كل العوامل والعناصر التي ترى من مصلحتها أن نبقى على الهامش. ولهذا كله لابد أن نمتلك الإقدام والجرأة على أن نخوض الغمار ونقطع أشواطا وإن كانت بعيدة المسافة نحو نهضة حضارية شاملة لهذه الأمة العريقة. خاصة وإننا في شوطنا هذا لا نتحرك من فراغ، ولا نبدأ من نقطة الصفر، لأن نهضتنا في الواقع كانت قد بدأت في القرن التاسع عشر، ولا بد أن نربط بين حلقات هذه النهضة ما تأخر منها وما تقدم لأن التاريخ سياق متصل ليست فيه فراغات ولا فجوات، وإنما هو حلقات مترابطة يكمل بعضها بعضاً، فمولود اليوم هو حمل الأمس وشجرة الغد هي بذرة اليوم.
ولهذا حينما نتكلم عن آفاق مستقبلية للنهضة لا بد أن نلتفت قليلاً إلى الوراء، نتلمس بدايات هذه النهضة حينما تبلورت خطوطها العريضة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وتصدى رواد أوائل وأماثل لقيادة هذه النهضة، حيث كانت أمتنا تعيش في سبات عميق ولا تزال في تلك الفترة تعاني من تداعيات عصر الانحطاط، حيث خرجنا عن دائرة الضوء حينما سقطنا حضاريا ككيان، وحينما بدأنا بالعد التنازلي كأمة، في تلك الفترة بدأ المشروع النهضوي يستهدف إيجاد صحوة لهذه الأمة تخرجها من حالة السبات ومن النوم العميق الذي كانت تغط فيه في أوضاع بائسة من الجهل والتخلف.
وقطع أولئك الرواد شوطا مليئا بالمعاناة والنضال وقدم بعضهم حياته في هذا الطريق، كانوا مفكرين وسياسيين وعلماء دين تظافرت جهودهم كلّ في مجاله من أجل تحقيق ذلك الهدف الكبير، فقطعنا في ذلك التحرك أشواطاً لا يمكن ان نقلل من شأنها.
لكننا وجدنا اتجاها لدى قطاع من المفكرين والسياسيين المعاصرين، يرمي ذلك التحرك النهضوي بالفشل، ويعتقد أنه لم يحقق الهدف الكبير الذي صيغ في شعار الاتحاد والرقي. بمعنى أن هدف النهضة كان هو وحدة الأمة أولاً، ورقيها ثانياً. حيث نعيش في هذا الجو التشتت الكامل واجترار الماضي والجلوس على موائد الحضارة المعاصرة في معطيات رقيها، فلم نحقق لا الاتحاد ولا الرقي، ولهذا نعتوا حركة النهضة بالفشل.
لكننا نعتقد أن هذه الرؤية في منأى عن الواقع وتغفل مجموعة من الايجابيات الكبرى التي تحققت طيلة قرن ونصف، فأمتنا كانت تعاني تحت نير الاستعمار بمختلف صوره وأشكاله سواء أكان استعماراً قومياً ارتدى زياً دينياً، كما هو الحال أيام الحكم العثماني أو استعماراً أجنبياً مفضوحاً دخل بشكل مباشر إلى ساحتنا.
فكان من انجازات المشروع النهضوي هو أن حرر الأمة من الاستعمار، واستطاع ان يؤسس الدولة الوطنية مهما كانت لدينا من ملاحظات على إستقلال القرار السياسي لهذه الدول ولكن، هناك حقيقة لا يمكن إغفالها هي:
أن شعوبنا العربية والإسلامية استطاعت أن تحرر نفسها من الاستعمار المباشر، وان تعيش جو الدولة الوطنية، وهذا انجاز مهم من الانجازات التي حققها التحرك النهضوي الذي أشرنا إليه.
وعلى الصعيد الثقافي كانت امتنا غارقة في الجهل والتخلف، وكانت النسبة الأكبر هي للاميين في هذه الأمة، بينما اليوم أمتنا قطعت شوطاً ملحوظاً في تصعيد مستواها الثقافي وأصبحت ملأى تعج بالعقول المفكرة والكوادر الكفوءة في مختلف الاختصاصات. ونزلت نسبة الأمية في خطها البياني في كثير من دولنا العربية والإسلامية إلى حدود أصبح بينها وبين ما كانت عليه الأمة من الأمية في القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين بوناً شاسعاً.
السياسة كانت لعبة بأيدي النخب، بينما أصبحت السياسة همّ الجماهير وحديثها الدائم وهدفها نحو المشاركة السياسية الحقيقية.
الأسرة التي كانت تتقاعس عن إرسال أولادها إلى المدارس لأخذ قسطهم من التعليم أصبحت تشعر في داخلها بأنها إذا لم تدمج أبنائها في العجلة العلمية والثقافية فإنها قد أجرمت بحقهم، وهذا انجاز مهم أيضاً من انجازات هذه النهضة.
أمتنا كانت في منأى عن القيم الايجابية التي تسود العالم المتحضر، فصارت تندمج في هذه القيم وتتحرك باتجاهها، مثل قيم حقوق الإنسان وحقوق المرأة والديمقراطية وما شاكل، وهذا أيضاً انجاز من انجازات النهوض الحضاري والنهضة التي بدأها أولئك الرواد الأوائل أمثال جمال الدين الأفغاني - محمد عبده - عبد الرحمن الكواكبي... والكثير من المفكرين والسياسيين العرب والمسلمين.
إذن أمتنا قطعت شوطاً لا يستهان به نحو النهضة، ولكن هل إن هذا الشوط الذي قطعته الأمة هو بمستوى الطموح؟ الجواب بالنفي يقيناً.
ولكن علينا أيضاً ان نكون واقعيين، فهل إن الحضارة الأوروبية والغربية استطاعت ان تصل إلى ما وصلت إليه اليوم في مثل الفترة التي قطعتها امتنا في شوطها النهضوي، منذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا؟
لو رجعنا وتلمسنا البدايات الأولى للنهضة الغربية لوجدناها تفتتح في القرن الثالث عشر خلافا لما يراه بعض المفكرين من ان مرحلة (الرينايسنس/التنوير) قد بدأت في القرن السادس عشر، ولكنني أعتقد ان النهضة الغربية بدأت منذ القرن الثالث عشر، فكانت جامعة السوربون التي أسست سنة (1253) هي الجامعة التي بدأت تضع القواعد الفكرية وأسس تلك النهضة الغربية.
مرت أوروبا بسبعة قرون شهدت خلالها العديد من التفاعلات على الصعيد السياسي، على الصعيد الديني، على الصعيد الثقافي، على الصعيد الاجتماعي، على الصعيد الاقتصادي، على الصعيد العلمي والتقني حتى استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه اليوم.
أمتنا لا يمكنها ان تصل إلى مثل هذه النتيجة عبر حرق المراحل، لأن النمو الاجتماعي - وهذه سنة تاريخية وقانون اجتماعي عام- لا يمكن ان يستغرق لحظات من الزمن وانما يحتاج إلى مدة طويلة في العمر التاريخي، لكي تحصل مثل هذه التفاعلات التي لم نحصل عليها بعد في طريق نمونا وتطورنا على كل الصعد.
هذا وأمتنا يضاف إليها عنصر لم يكن لدى الغربيين حينما بدأوا نهضتهم، فإنهم بدأوا تلك النهضة في وقت لم يكن لحضارتنا ذلك الصوت، ولم نكن نمتلك ذلك الدوي وتلك القدرة التي تشكل تحديا لهم، عموماً لم تواجه النهضة الأوروبية تحدياً خارجياً يعرقلها أو يجهضها.
بينما بدأنا شوطنا النهضوي في واقع مختلف، حيث كانت حضارة الغرب تعيش حالة الازدهار والقوة في كل الأصعدة، في مواجهة ضعف واضح وشامل وكامل لهذه الأمة. ولا نزال نعيش تحت ضغط تلك القوة التي كلما تقدمنا خطوات حاولت ان ترجعنا إلى المربع الاول بقوتها العسكرية، وهذا ما نشهده ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين، فإننا بعد ان قطعنا ذلك الشوط الذي ذكرنا انه لا يستهان به، وبعد ان خاضت امتنا كفاحاً مريراً من أجل ان تنال استقلالها ، وان تتحرك لتطوير نفسها حضاريا نواجه الان ذلك التحدي الذي واجهناه إبان الاستعمار ليعيدنا إلى واقع جاهدنا قرنا كاملا من أجل ان نتخلص منه.
ولهذا فنهضتنا الحضارية تعاني من أكبر وأخطر تحد لها، هو هذا التحدي الخارجي ومن عدو داخلي فيها وهو الكيان الصهيوني الذي يمتص على الدوام طاقاتنا ويشغلنا بأنفسنا عن ان نقفز أيضا نحو التقدم ونحن نقطع أشواط النهضة.
كنا نقطعها من خلال منهج التجربة والخطأ ولهذا بقينا طيلة هذه المدة في دوامة فكرية تتجاذبنا تيارات من داخلنا، وتتقاذفنا تيارات من خارجنا، فلم نكن ندري ونحن نريد أن ننهض، هل نعتمد في هذه النهضة على تراثنا، أو نحاكي الغرب حينما انفصل عن تراثه الديني فقطع أشواط نهضته، ولم نكن ندري كيف يمكن ان نخرج ثنائية الأصالة والمعاصرة عن كونها ثنائية جدلية.
ولم نكن ندري سياسياً كيف نبني إطار هذه النهضة السياسي، هل يبنى على أساس قومي، أو يبنى على أساس وطني، أو يبنى طبق رؤية إسلامية شمولية، أو طبق رؤية أممية تريد للكيانات الوطنية والقومية أن تتلاشى في داخلها، حينما أوجدنا تناقضا بين هويتنا الإسلامية وهويتنا القومية والوطنية، وهكذا بقينا نعيش جدلا بيزنطيا يمنعنا عن أن نخرج ببرنامج عملي وواقعي يستطيع ان يجتذب إجماع الأمة لكي يرسم لها وبشكل عملي خطواتها على طريق النهضة. ولهذا يحتاج المشروع النهضوي الذي نؤمن انه يجب ان يتواصل ويجب ان يستمر - لأن نهضتنا هي قدرنا - يحتاج إلى دعامتين رئيستين:-
الأولى: - أن ينبري رواد لهذه النهضة لقيادة هذه النهضة ثقافياً ودينياً وسياسياً واجتماعياً كما انبرى لها قبل قرن ونصف أولئك الرواد الذين خلدهم التأريخ.
الثانية: - أن نبرمج خطواتنا ونخرج من هذا الجدل العقيم لنضع اتجاهات النهضة العملية.
وبغير ذلك سوف نمنى بالفشل وتعترينا الهزيمة مرة ثانية.
هناك آفاق كان لابد لنا ان نتحرك فيها جميعاً، وكان لابد للأمة مهما أريد لصوتها أن يغيّب ولأرادتها ان تلين، كان لابد لها ان تضغط في اتجاه تلك الأمور، قلنا إننا أسسنا الدولة الوطنية، ولكننا أسسناها في ظل واقع التجزئة الذي نعيشه ونئن منه، بحيث أصبح الخروج في هذه الفترة والفترة التي سبقتها عن واقع التجزئة أمراً يكاد ان يكون مستحيلاً إذا أخذنا بالحسبان كل الظروف التي نعيشها.
ولكن في المقابل كان بإمكاننا على الرغم من واقع التجزئة المفروض علينا، كان بإمكاننا ان نقفز على حدود التجزئة لنؤكد انتمائنا الواحد الذي يجمعنا جميعاً، وان نخطو خطوات عملية لتأكيد هذا الانتماء.
هذا الأمر الذي تحقق للأوروبيين على الرغم من واقع التجزئة الذي يعيشونه إلى الآن، لأن ما يسمى بالاتحاد الأوروبي لا يعيش مصداقاً جغرافيا وإنما قفز على واقع التجزئة الجغرافية لدى أوروبا ليشكل سوقاً مشتركة وبرلماناً مشتركاً، وإجراءات تشعر إبن تلك القارة بأنه وإن تنقل من دولة إلى دولة، ولكنه في الواقع منتقل من مدينة إلى مدينة.
هذا الأمر الذي كنا نستطيع أن نحققه ولكننا لم نحققه. وهكذا على صعيد التماسك الاجتماعي لشعوبنا، فإننا على الرغم من العاطفة الجياشة التي يشعر بها بعضنا ازاء البعض الآخر... يشعر بها العراقي إزاء السوري، والسوري إزاء المغربي، وهكذا على الرغم من هذه العاطفة، إلا إننا لم نستثمر هذه العاطفة ، ولم نحولها من مجرد انفعال نفسي صحيح إلى ترجمة عملية لبناء الأواصر، حتى ما كان أسريا، بل وجدنا للأسف لدى بعض هذه الدول إجراءات من شأنها أن تحد من هذا التماسك. وهكذا نرى أنفسنا نتحرك في حلقة تكاد تكون مفرغة، أو أن مسارات هذه الحلقة أصبحت من الالتواء والتعرج بالشكل الذي أضعنا فيه خط السير الموجه، الذي يخرجنا من هذه الحلقة في خط مستقيم نحو النهضة.
ولكن الأمر الذي نريد ان نؤكد عليه هو إننا لابد ان نعيش زخماً معنوياً نهضوياً وان نتغلب على كل عوامل التثبيط، وعلى كل العوامل التي تفشل خطواتنا النهضوية آخذين بنظر الاعتبار الشوط الذي قطعته أمتنا في تأريخها المعاصر، والمقومات التي تمتلكها هذه الأمة نحو نهوض مستقبلي، والتحديات التي نواجهها والتي لا يمكننا بحال ان نتغلب عليها إلا من خلال حركة نهضوية. بمعنى أن أي علاج في مواجهة تلك التحديات من موقع الدفاع ومن العزلة لا يمكن ان يجدي في التغلب على هذه التحديات، وانما هي ساحة مفتوحة ندخلها، إما من خلال الحوار والتفاهم للوصول إلى ما نريد وهذا أفضل الطرق، لكن عدونا وإن تباهى بشعارات الحوار والتفاهم إلا انه عملياً لا يسلك طريق الحوار والتفاهم، وإنما هي صراعات إرادات، يريد من خلال هذا الصراع أن يحملنا عبء إرادته، وهناك حقيقة في السياسة هي (أن القوة تحقق أهدافها بأي ثمن) وهكذا تريد القوى التي تحيط بنا أن تحقق أهدافها بأي ثمن. أو من خلال الدفاع وخوض غمار الصراع المفروض علينا.
والكائن الحي حينما يواجه تحدياً مصيرياً، ليس أمامه سوى أن ينتفض دفاعا عن حياته، لا من أجل ان يحفظ حياته فقط وإنما من أجل أن يضمن لهذه الحياة مقومات الديمومة والاستمرار، وهذه مسؤوليتنا، بل هو قدرنا الذي لابد ان نسير في اتجاهه.
وهذه النخب المفكرة والمثقفة هي الطليعة التي تقود الأمة نحو النهوض. نحن الآن لا نريد في شوطنا النهضوي المعاصر أن نتحرك من نفس الخطوة التي تحرك منها أولئك النهضويون قبل قرن ونصف، لأننا ذكرنا أنهم تحركوا واضعين أمامهم هدفاً كبيراً يستقطب كل اهتمامهم، وهو إخراج الأمة من السبات وهذا ما حصل وتحقق، فأمتنا اليوم لا تعيش سباتا ولا تغط في نوم، بل هي امة حية واعية تعيش أجواء الصحوة، ولكنها بحاجة إلى من يأخذ بيدها منطلقا من وعيها وصحوتها ليرسم لها الاتجاهات العملية نحو النهضة. هذا الذي نحتاجه، وهذا الذي يجب ان يكون هدفنا الكبير في هذه المرحلة، لكي تتلاحم كل الطاقات من أجل تحقيق هذا الهدف وبناء المستقبل.____________
(*)محاضرة ألقيت بتاريخ 7 - 11 - 2003. بدعوة من جمعية النهوض الفكري في منتدى بغداد الثقافي في الكاظمية ببغداد.
الحلقة الثانية:
هذا توفيق ثانٍ ان نحضر إلى هذا المكان لمواصلة الحديث حول المشروع النهضوي.(*)
إن الحديث عن المشروع النهضوي يمتد بامتداد الشوط الذي تقطعه الأمة في طريق النهضة، ولن يبلغ الحديث مداه مالم تتمكن الأمة من تحقيق أهداف هذه النهضة، وقبل تحقيق هذه الأهداف فأن ذلك الشوط سواءً أكانت خطواته بطيئة أو سريعة يعبر عن مسيرة تخوضها هذه الأمة لتحقيق هذه الأهداف، وبالتالي لن ينقطع الحديث عن المشروع النهضوي. إذا كانت نهضتنا مفتاح حضارتنا فالمشروع النهضوي هو مفتاح النهضة وبالتالي فان كلمة هذا المشروع تتميز بقوة تتجدد من خلالها حياتنا، كما يقول شاعر المقاومة الفرنسي (بول ايلوار): بقوة الكلمة تتجدد حياتي، تلك الحياة التي كاد أن يقطعها اليأس.
وهكذا يتواصل الحديث عن هذا المشروع، ولا يكتفى فيه بمحاضر واحد ولا برمز واحد من رموز النهضة الحديثة، وإنما لابد ان نستغرق في حوار جاد يؤسس لهذه النهضة قواعدها ويؤصلها من أجل ان تسير في خطىً مرسومة ذات اتجاهات محددة لكي تؤتي ثمارها ونتائجها العملية.
إن المشروع النهضوي ما هو إلا مقدمة للنهضة، وإذا بقيت مقدمة كل شيء في محلها فهذا يعني أننا لم نحقق شيئاً، لأن المقدمة طريق إلى ذلك الهدف، فإذا اقتصرنا وركزنا أنظارنا في حدود المقدمة وفي إطارها لم نصل إلى الهدف، لابد أن نتخذ من هذه المقدمة معبراً وممراً يوصلنا إلى ذلك الهدف الكبير.
في المحاضرة السابقة لم أشأ أن أتطرق إلى التفاصيل الفكرية للنهضة، وإنما أردت بيان توطئة لتلك التفاصيل أستعرض من خلالها حلقات هذه النهضة في بداياتها، وما هي الخطوات والأشواط التي قطعتها النهضة إلى يومنا هذا، لما ذكرناه من أن التأريخ سياق متصل ليست فيه فجوات، وإنما هو حلقات متواصلة، وبالتالي لا يمكن ان تمسك بحلقة قبل ان تلتفت إلى ماقبلها.
وقد وردت مجموعة من المداخلات التي لم تعط حقها باعتبار ضيق الوقت في تلك المحاضرة. في هذا المجمع وفي هذا اليوم نحاول ان نتطرق إلى هذه المداخلات، وأحسب اننا من خلال مناقشة هذه المداخلات يمكننا ان نتعمق أكثر فأكثر في مارسمناه في المحاضرة السابقة ونؤصل ماذكرناه في تلك المحاضرة. ونبدأ بهذه المداخلات، أقرأها واحدة فواحدة وأعلق عليها :-
المداخلة الأولى: رغم المقدمة التاريخية التي تفضل بها سماحتكم، إلا أننا نرى أن النهضة التي سادت الأمة العربية والإسلامية قد إنكفأت ولم تحقق أهدافها، بل على العكس من ذلك. ما هي الاسباب التي أدت إلى هذا الانكفاء، وخاصة بعد أن تحررت هذه البلدان شكليا عن المستعمر؟
والجواب: لعل وصف النهضة بالأنكفاءة أو وصف مسيرة النهضة بالانكفاءة ناتج عن قصر النظر على الأهداف الستراتيجية للنهضة، تلك الأهداف التي لم تتحقق إلى يومنا هذا. وأما الأهداف المرحلية لتلك النهضة فقد ذكرنا في المحاضرة السابقة بأنه تحقق شيء مهم منها على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الثقافي وعلى صعيد الاندماج في المعطيات الحضارية الإيجابية العالمية.
فإذن المشروع النهضوي لم يتوقف في موطيء قدمه الأول، وإنما هذا المشروع استطاع عبر قرن ونصف أن يحقق إنجازات ضخمة، ولكن ان لا يصل هذا المشروع إلى أهدافه الستراتيجية، فباعتبار ان هناك أسباباً طبيعية لذلك يمكن ان نذكر منها عاملين أساسيين :-
العامل الأول: هو التحدي الخارجي المستمر للأمة والذي يمتلك القوة بكل معانيها من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية إلى الهيمنة في شتى جوانب المجتمع، وبالتالي هذا التحدي المباشر لا يعطي للأمة فرصة أن تستمر في شوطها النهضوي، وإنما يسعى دائماً لإيجاد العثرات، بل لصد الأمة عن الاستمرار في هذا الخط، أو تفريغ عملها من محتواه أو إعادتها إلى المربع الأول كلما خطت خطوات في طريق النهضة.
هذه الأمة التي استطاعت أن تحرر نفسها من نير الاستعمار وان تؤسس الدولة الوطنية، وقلنا مهما كان هناك من ملاحظات على استقلال الإرادة والقرار السياسي لهذه الدول، ولكن هناك دولة وطنية قد تأسست في العالم العربي والإسلامي. إلا أن الاستعمار وبعد ان جعلنا تأسيس الدولة الوطنية وراء ظهورنا واعتبرناها خطوة خطوناها ولا بد ان تتلاحق بخطوات إلى الأمام نراه يعيدنا مرة ثانية إلى وضع الاحتلال، ويحاول أن يمتد في احتلاله إلى بقع أخرى وأماكن أخرى. وهكذا دائماً نعاني من تحد خارجي مباشر لا يعطينا فرصة لكي نستكمل هذا الشوط بل يجعلنا نعيش في دوامة ويخلق لنا مشكلات من الداخل تلهينا عن ذلك الهدف الأساسي الذي به يمكن أن نواصل حياتنا ونجددها. فإذن العامل الاول هو عامل التحدي الخارجي.
العامل الثاني: إن النهضة تحتاج إلى مجموعة من التفاعلات سياسياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً، ما لم تحصل هذه التفاعلات لا يمكن ان يتحقق لنا الانجاز الكبير الذي نرومه ونريده ونبغيه، وقد ذكرنا في المحاضرة السابقة أن النهضة الأوروبية استغرقت قرونا طويلة مرت فيها أوروبا بمجموعة من التفاعلات حتى استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه. كثير من المفكرين يعتقد ان النهضة الأوروبية بدأت في القرن الخامس عشر (مرحلة الرينايسنس) ولكنني من خلال تتبعي لجذور هذه النهضة وجدت انها بدأت في مرحلة متقدمة على ذلك، وقد ذكرنا ان جامعة السوربون أسست سنة (1253) للميلاد وكان تأسيسها إيذانا ببدء عصر نهضوي جديد في أوروبا. ولهذا فمنذ القرن الثالث عشر بدأت أوروبا شوطها النهضوي ولم تصل إلى أهدافها إلا في القرن التاسع عشر. فاستغرقت نهضتها قرونا، وهذا امر طبيعي لأن التغيير الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية ليست كالتفاعلات الكيميائية. في معادلة كيميائية لمجرد أن تكون هناك خلطة كيميائية نحصل على شيء جديد، التفاعلات الاجتماعية تستغرق مدة من الزمن، ولهذا فإن العمر التاريخي للأحداث هو أطول بكثير من عمر الأفراد، وبالتالي عمر المجتمعات يختلف عن عمر الأفراد، وما يريد مجتمع أن يحققه من أهداف قد يتجاوز عمر جيل أو جيلين من أفراد ذلك المجتمع. فأذن نحتاج إلى وقت، إلى زمن نمر فيه بمجموعة من هذه التفاعلات التي مررنا ببعضها ونحتاج ان نمر بالبعض الآخر، فإلى الآن مثلا لايزال الخطاب الديني والفكر الديني، قاصراً عن بلوغ المستوى الذي بلغته مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولم يجد هذا الخطاب تلك العقول التي تنفتح عليه في أوائل القرن العشرين وحتى في أواسط القرن العشرين، ولهذا وجدنا ان كثيراً من النخب الثقافية ومن رواد الجامعات يُستقطبون لاتجاهات علمانية غريبة في أطروحاتها عن هوية الأمة.
ولكن هذا الاستقطاب أمرٌ طبيعي، فهو لا يعد في نظري خللاً في هذه النخب بمقدار ما يعبر عن قصور في استيعاب المؤسسة الدينية لهذه النخب، فما لم يحصل تطور في الفكر الديني وتفعيل له وتفعيل للاجتهاد الذي به تحفظ ديمومة الدين والتراث لا يمكن أن نرقى لمستوى عالٍ من النهضة، باعتبار ما ذكرناه من أن هذه الأمة تتميز عن الأمة الاوروبية في أنها أمة صاغها الإسلام وأوجدها الإسلام، وصاغتها تعاليمه ومثله وقيمه ومبادئه، فأي انسلاخ لها عن هذه المبادئ انسلاخ عن الهوية، وحينما تنسلخ الأمة عن الهوية تبقى معلقة في الجو لا تستقر أقدامها على ارض صلبة.
بينما الأمة الاوروبية لم تشكل تعاليم المسيحية فيها سوى جزء بسيط ويسير من حضارتها بل استطاعت أن تتجاوز كل العقبات الدينية حينما انسلخت عن الكنيسة.
فإذن من أهم الأمور في طريق النهضة هو تنمية وتصعيد وتطوير الفكر الديني وهذا لم يحصل إلى الآن. لقد خطونا خطوات جدية وإيجابية، ولكن لم تكن تلك الخطوات مجدية في الخروج بالمثقفين من أزمة الفكر ومن الحيرة لدى قطاع كبير من المفكرين، هناك أزمة في العقل العربي والإسلامي من أهم أسبابها هو عدم وجود مشروع ناضج عملياً يرسم للنهضة اتجاهاتها. فإذن نحتاج إلى تفاعلات جمّـة لا بد ان تتحقق، ومن دون تحققها لا يصح ان نتوقع للمشروع النهضوي ان يسرع في خطواته، وان ينمو نمواً ملموساً وملحوظاً ويقدم شيئاً جديراً بالاهتمام لمجموع هذه الأمة.
المداخلة الثانية: تقول المداخلة أيضاً (نلاحظ غياب الخطاب الحقيقي والواقعي الذي يعبر عن اتجاه التيار الإسلامي ونلاحظ غياب المعالجات الحقيقية، ونلاحظ تخبط وعدم انتظام وكثرة القنوات التي تعبر عن هذا التيار، أضف إلى ذلك غياب التنسيق وتوحيد الصفوف في هذا التيار). ما هي الأسباب التي أدت إلى بروز هكذا تداعيات خطيرة تهدد المؤسسة الدينية بالنضوب والموت، وكما عبر عنها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في خطابه (المحنة).
الجواب: - أتفق مع كاتب هذه المداخلة في الملاحظة التي أبداها على الخطاب الديني وأضيف على ذلك الخطاب السياسي للتيارات الإسلامية ويرجع ذلك إلى مجموعة أسباب: -
1 - نقص الثقافة العصرية لهذه التيارات الدينية، ما كان منها دينياً بحتاً أو ما كان منها دينياً سياسياً. السياسة أصبحت علماً مهماً من العلوم له فروع متشعبة، كل فرع من هذه الفروع صار ميداناً لمجموعة من التخصصات، وكل المؤسسات السياسية الحديثة في العالم تستمد من معطيات علم السياسة ما يمونها في حركتها السياسية، ولهذا فإن الحركة السياسية للدول الحديثة تستهدي بمعطيات هذه العلوم.
إدارة الأزمات والصراع أصبح بنفسه علماً مستقلاً يُتخصص فيه، الاستشراف السياسي المستقبلي أصبح علماً مستقلاً تؤخذ فيه شهادات عليا، وهكذا باقي فروع المعرفة السياسية، هذه التيارات الإسلامية المنتشرة في العالم العربي والإسلامي، لاشك في أنها حينما بدأت وحتى بعد ان قطعت شوطاً ليس بالقصير في عملها وحركتها السياسية، هذه التيارات لم تنفتح كما ينبغي أن تنفتح على هذه الثقافة السياسية، وهذا حينما أقوله، أقوله عن إطلاع.
وقد خالطت العديد من أولئك السياسيين الذين يُحسبون على هذه التيارات، فوجدت فيهم نضباً واضحاً في المعرفة السياسية الحديثة، حتى صرت أشك في كفاءة هؤلاء في أي مفاوضات سياسية يجرونها مع دول حديثة!
كيف يمكن ان يستمدوا المادة العلمية والأسلوب العلمي لهذه المفاوضات! هناك نقص كبير في المعرفة السياسية، وحتى ان المرجعية الدينية يفترض فيها أن تكون على درجة عالية من الثقافة السياسية والخلفية السياسية، ولا بد ان يكون لمؤسسة المرجعية مركز علمي للأبحاث والدراسات السياسية يعمل فيه مجموعة من المتخصصين يُنضجون لها قراراتها السياسية وهذا لم يتحقق إلى الآن.
فإذن نقص الثقافة العصرية وعدم الانفتاح على معطيات هذه الثقافة سبب أساسي في المشكلة.
أنتم ترون ان المزاج النفسي أصلاً للعاملين في هذه التيارات، ليس ذلك المزاج الذي يستوعب هذه الثقافة، وإنما يحاول أن يأخذ منها بعض المصطلحات وان يجعلها ثقافة مقارنة بمعنى انه يستمد من التراث أكثر مما يستمد من معطيات العلوم الحديثة والثقافة المعاصرة، ولهذا يأتي خطابه قاصراً، من الطبيعي أن يأتي مثل هذا الخطاب قاصراً لأن المزاج النفسي لهذا الخطاب هو مزاج تراثي قبل ان يكون مزاجاً عصرياً، وهذا نقص ندعو إلى إصلاحه. يعني نحن حينما نوجه هذه الملاحظة لا نريد منها تهديم ذلك الكيان، بل على العكس نريد أن نبني هذا الكيان بناء سليماً صحيحاً يتجاوب ويتناسب مع هذه المرحلة، بل نريد له أن يسبق الأحداث، وأن يخطو نحو المستقبل، وأن يخطو إلى الأمام بدل ان ينجر إلى الخلف.
2 - السبب الآخر هو الانشداد أكثر من اللازم إلى التراث. لا يمكن أن نهمل التراث، التراث أمر ضروري، وأي أمة إذا انسلخت عن تراثها أعدمت نفسها بنفسها، وجنت على نفسها وعلى أجيالها.
نحن لا نريد أن نهمل التراث ولا نريد أن نضع التراث في المتاحف، نحن نريد أن نستنطق التراث وان نستلهم منه، ولكن لا نتجمد فيه، ولا أن يشدنا التراث إليه بالشكل الذي يعيقنا عن ان نتقدم إلى الأمام. الانشداد إلى التراث أكثر من اللازم هو أحد الأسباب الرئيسة في هذا القصور الذي أشار إليه صاحب المداخلة. هناك سبب آخر:
3 - نقص الفهم الديني. الدين في الواقع بحر عميق لا يمكن ان نتعامل معه ومع معطياته تعاملاً سطحياً، وإنما يحتاج إلى الكثير الكثير من التخصص والتعمق والاستيعاب.
المعرفة الدينية لا تقصر عن سائر مناحي المعارف البشرية، بل تتفوق عليها فيما لو أحسن الاستفادة من كنوز هذه المعرفة وأحسنا عرضها على الناس.
نقص الفهم الديني له دور كبير في قصور هذه المؤسسات وفي قصور هذه التيارات، لأنها حينما تعاني من نقص في الفهم الديني لن تستطيع ان تقدم شيئاً متطوراً على الصعيد الديني، ولهذا نتيجة لنقص هذا الفهم برزت مجموعة من الظواهر السلبية على هذا الصعيد منها: -
أ - عدم التناسق بين المفاهيم الدينية المطروحة، فإننا نلاحظ أن هناك جملة من هذه المفاهيم حينما توضع إلى صف بعضها البعض، لا يخرج القارئ أو السامع، بمنظومة دينية متناسقة، وإنما يجد خللاً تناسقياً بين هذه المفاهيم الدينية، وهذا سببه نقص الفهم الديني. وإلا إذا كان هناك فهم متكامل عميق، فان مفاهيم الدين متناسقة في حد نفسها ولا يوجد فيما بينها جدلية أو مفارقة.
ب - الخلط بين قداسة النص وحجية الفهم للنص أدى في كثير من الأحايين إلى خلل في تقديم أطروحة بأسم الدين تكون مقنعة للعقول المعاصرة.
ج - عدم التمييز بين الأحكام الثابتة في الإسلام والأحكام المتغيرة، وتعريف كثير من الأحكام المتغيرة على أنها أحكام ثابتة أيضاً أدى إلى هذا القصور، وسببه الأساسي هو النقص في الفهم الديني، لو كان الفهم الديني فهما مستوعبا متعمقا كما ينبغي، لأستطاع أن يؤصل الأسس التي تتميز فيها الأحكام الثابتة عن الأحكام المتغيرة.
د - الخلط بين جسرية الحياة الدنيا للآخرة، وبين ضرورة التوازن بين الحياة الدنيا والآخرة حتى حصل انطباع لدى كثير من الناس، بأن التقدم نحو الآخرة لابد ان يكون على حساب الدنيا، مع ان الأمر ليس كذلك بل على العكس، التقدم نحو الآخرة انما يتكامل ويأخذ مكانته الطبيعية حينما يحصل التوازن بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
إذا لم يحصل مثل هذا التوازن، سوف تكون الثقافة التي نطرحها ثقافة أخروية أكثر مما هي ثقافة توازنية، ثقافة تحث الإنسان على الانشداد إلى الآخرة دون توازن، والانشداد إلى الآخرة أمر صحيح ومطلوب وضروري، ولكن لا على حساب إعطاء الحياة الدنيا حظها ونصيبها وقيمتها العلمية والحضارية.
فإذن هذه مجموعة من الاسباب التي يمكن ان تذكر في هذه المعالجة لغياب الخطاب الحقيقي والواقعي الذي يعبر عن اتجاه التيار الإسلامي، ونقص المؤسسة الدينية في هذا المجال، (ونحن نعمل من خلال أطروحتنا في المشروع النهضوي أو من خلال حركتنا من موقعنا ومركزنا الديني، نعمل على تجاوز هذه المشاكل والاشكاليات سواء في الطرح الديني الذي نقدمه أو الطرح الثقافي الذي نطرحه، أو في الخطوات العملية التي نخطوها في المجتمع).
سؤال: هل نظرتكم إلى حركة النهوض الإسلامي، هي نظرة قومية؟ أم هي شمولية للعالم الإسلامي الواسع؟
الجواب: - بالتأكيد هي نظرة شمولية للعالم الإسلامي الواسع، ولكننا نعطي الاولوية للأمة العربية منطلقين من فهم يقول: بأن الأمة العربية إذا نهضت، فبنهوضها يستطيع العالم الإسلامي كله أن ينهض، ولكن الأمة العربية إذا عجزت عن النهضة لن تتكامل نهضة في العالم الإسلامي كله، هي قلب العالم الإسلامي وبالتالي لا يمكن ان يتحرك هذا الجسم الإسلامي الكبير إلا من خلال أهم مفاصله وهي هذه الأمة بعرضها العريض.
فإذن مشروعنا النهضوي ليس مشروعاً يتحدد باطار قومي ولكنه يعطي أولوية للأمة العربية، باعتبار انها إذا استطاعت ان تنهض، استطاع كل العالم الإسلامي ان ينهض، وإذا عجزت هذه الأمة عن النهوض، فإن أي نهضة تتحقق في أية بقعة من بقع العالم الإسلامي في أحسن التقادير، تبقى انجازا محدودا بتلك البقعة.
هناك تطور حصل في (ماليزيا) وهي جزء من أجزاء العالم الإسلامي، ولكن هل ان هذا التطور الذي حصل هناك استطاع ان ينعكس بشكل ايجابي على كل هذا الجسم الإسلامي، أو بقي في شكل تطور محدود في اطار ذلك القطر أو في اطار تلك الدولة؟
الجواب: هو الثاني والشق الثاني، بينما تاريخياً وجدنا ان هذه الأمة متى ما نهضت ادى نهوضها إلى ان ينتعش العالم الإسلامي برمته.
سؤال: هل هناك برنامج نهضوي متكامل لديكم؟ ام يقع ذلك على عاتق عموم الناس ؟
الجواب: - لدينا برنامج نهضوي، ولكن ليس من الصواب ان نصف هذا البرنامج بأنه متكامل! لان التكامل ليس أمراً ممكنا أن يتحقق لفرد مهما بلغ ذلك الفرد من النبوغ والعبقرية، وإنما تكامل مثل هذا المشروع ومشروع بحجم هذا المشروع النهضوي وبعظمة هذا المشروع النهضوي لا يكاد يتحقق هذا التكامل إلا إذا تضافرت جهود الأمة كلها، وإذا تضافرت عقول نخبها سواء تلك النخب الدينية أو النخب الحداثية الجامعية، هذه النخب كلها لابد ان تتضافر من اجل إيجاد حالة التكامل في هذا المشروع، والا فرد واحد مهما كانت طروحاته لا يمكن ان نصف تلك الطروحات بانها طروحات متكاملة.
سؤال: لازال جمال الدين الأفغاني يطل بقامته على تأريخنا الحديث، هل آراؤه النهضوية لازالت تنبض بالحياة، وخصوصاً فيما يتعلق بنموذج اليابان بعد ان اقتحمت العولمة حدودنا الطبيعية والاجتماعية؟
الجواب: - جمال الدين الافغاني لاشك في انه من أهم رموز النهضة الإسلامية الحديثة، ومن مؤسسي وواضعي ذلك المشروع النهضوي. لا يمكن في شوطنا النهضوي المعاصر، ما دمنا قد أكدنا تلك الحقيقة التي تقول بأن شوطنا المعاصر ما هو إلا حلقة من حلقات المشروع النهضوي التي لابد ان ترتبط بما سبقها من حلقات، لا يمكن لهذا المشروع المعاصر ان يدير ظهره لتلك الحلقة المهمة التي قام امثال السيد جمال الدين بتأسيسها وايجادها. نعم أولئك الرواد حينما بدؤوا مشروع النهضة كان الهدف الرئيس امامهم طبقا لحاجات تلك المرحلة ومتطلبات تلك المرحلة هو تخليص الأمة من الاستعمار، وإيجاد الإصلاح الداخلي في أوساط المجتمعات العربية والإسلامية. فيما يرتبط بالأمر الأول تحقق ذلك، وإذا كنا عدنا مرة ثانية إلى مرحلة الاستعمار، فذلك وضع جديد طرأ علينا، ولكن التخلص من الاستعمار المباشر أمر قد أنجزه المشروع النهضوي الذي بدأه السيد جمال الدين وغيره من أولئك الرواد، واما الإصلاح الداخلي فقد قطعوا فيه أيضاً خطوات مهمة. نحتاج إلى اصلاح داخلي وفقاً للأسس الجديدة، ولكننا لا نستطيع أن نغفل آثار تلك الحركة الأساسية المهمة التي بدأها السيد جمال الدين.
سؤال: يرى الكاتب برهان غليون: ان محنة الأمة تكمن في الدولة كتنظيم مغترب عن شؤون الأمة التاريخية والاجتماعية، مارأيكم في الدولة العربية الإسلامية المعاصرة كتنظيم قانوني وسياسي على طريق المشروع النهضوي؟
الجواب: - هذه الإشكالية تحتاج إلى نوع من الشفافية، هل انها إشكالية تتصل بشكل الدولة المعاصرة أو انها إشكالية تتصل بمضمونها. لان هناك في خطاب التيارات الإسلامية المعاصرة من يرى الإشكالية قائمة لا في المضمون فقط، وإنما في شكل الدولة أيضاً، لأنهم يدعون إلى دولة الخلافة، وتطبيق لصيغة دولة الخلافة، بينما شكل الدولة الحديث بعيد كل البعد عن تلك الحقيقة!
فإذا كان المقصود هو ذلك، نقول بأن الإسلام كدين خالد، وكشريعة خالدة أريد لها ان تستوعب الأزمنة، لم يضع لشكل الدولة قالباً ثابتاً، وإنما وضع لهذه الدولة مجموعة من المبادئ ومن المؤشرات ومن الاتجاهات ومن الخطوط العريضة تاركا تحديد الشكل لتفاصيل الحياة وإملاءات الظروف والمصالح الوقتية، ونمو التجربة الإنسانية بمعرفتها البشرية.
فالإسلام لا يريد ان يركن المعرفة البشرية جانباً، وإنما يمنهج هذه المعرفة، ويضع لها قيمها وأطرها، وبالتالي ليس من الصحيح أن نحجم أطروحة الإسلام السياسية في شكل خاص للدولة. أي شكل يمكن ان تتحقق من خلاله تلك الخطوط العريضة، وتلك القيم وتلك المبادئ التي جاء بها الإسلام ونادى بها على الصعيد السياسي، أي شكل يحقق ذلك ويتناسب مع النمو المعرفي للمجتمع، هذا الشكل شكل لا يرفضه الإسلام. وبالتالي لا أرى ان من الصحيح ان نعترض في إشكالية غير شفافة على شكل الدولة المعاصرة لمجرد تغايره مع الشكل الموجود في التراث.
نعم، الدولة المعاصرة هي إنتاج لمعرفة بشرية تحققت على مدى قرون من الزمن على يد الغرب، هل أن هذا الشكل هو الشكل النموذجي والنهائي بحسب معايير المعرفة البشرية؟
كلا، هذا الشكل بحاجة إلى تطوير، وهو حصيلة لتلك المعرفة التي تحققت للغرب، ومن الممكن ان يطور الغرب نفسه هذه المعرفة، لينتج شكلاً آخر من اشكال الدولة، أو ليطور في هذا الشكل.
الديمقراطية التي تقوم على أساس التصويت وعلى أساس الرضوخ لرأي الأكثرية، هل هذا النوع من الديمقراطية هو النوع النهائي، هو آخر ما وصل إليه العقل البشري ولا يوجد حينئذ وراء عبادان قرية؟ كلا.
المعرفة البشرية هي التي اقتضت هذا النوع من الديمقراطية، ومن الممكن حتى لنا كمسلمين أن نساهم بمعرفتنا البشرية أيضاً وبما نستمده من تراثنا لتطوير الديمقراطية ولعلنا نتمكن من طرح الديمقراطية بوجه جديد يمكن لنا تصديره حتى للغرب. فيما إذا طورنا معرفتنا البشرية، فإن هذا الشكل قابل للتطوير أيضاً، ولا يمكن أن نتحدد، ولا أن يتحدد الغرب بهذا الشكل، الغرب إلى أن وصل إلى هذا النوع من الديمقراطية قطع مجموعة من الأشواط، وقدمت الكثير من النظريات السياسية إلى أن وصلوا إلى هذه الوضعية الأخيرة.
ولكن لاتزال هذه النظريات في تطوير ولا يزال المفكرون السياسيون في الغرب يطورون ويطرحون مجموعة من الأفكار، ومن الممكن أن هذه الأفكار قد تنتج لنا بعد عقود من الزمن شيئاً جديداً في العملية الديمقراطية.
سؤال: كان أملنا ان تركزوا على الجوانب الفكرية والثقافية لتوفير شروط النهضة أكثر من تركيزكم على الجوانب السياسية والظروف المعيشية التي عاشتها امتنا العربية والإسلامية.
الجواب: - هذه المداخلة أثارت لدي كثيراً من الاستغراب، لأنني لم أتطرق أصلاً إلى قضية الظروف المعيشية للأمة العربية والإسلامية وإنما أردنا ان نربط حلقات المشروع النهضوي.
مداخلة: المداخلة الأخيرة، وهي خارجة عن موضوع المحاضرة:
ما هي الطريقة المثلى للتعامل مع قوات الاحتلال في الوقت الحاضر؟
الجواب: - ذكرنا في أكثر من مقابلة صحفية عامة، ان الاحتلال وضع غير طبيعي في أي مجتمع من المجتمعات، وحينما يكون الاحتلال حالة استثنائية غير طبيعية، فانه لا يمتلك ولا يحمل مقومات الديمومة والاستمرار، بل هو أمر مرشح للزوال، خاصة إذا واجهت الأمة تحدي الاحتلال بالشكل العلمي والعقلاني الذي لا يغفل طاقات الأمة الخلاقة في إزاحة هذا الاحتلال.
نحن نعتقد أن واقع الاحتلال في العراق سوف يزول، ولكننا نخشى من أمرين أساسيين:
1 - الأمر الأول: ان تكون السيادة التي نسترجعها سيادة شكلية فقط لا تتعدى الشكل إلى المضمون الحقيقي للسيادة، وهذا ما نخشاه.
2 - الأمر الثاني: إننا نعتقد ان المجتمع العراقي يعيش حالياً في الوقت الضائع، ونخشى من تمرير أمور أخرى في هذا الوقت الضائع، وفي غفلة من وعي الناس الذين وضعوا في دوامة من المشاكل الحياتية.
نخشى من تمرير مثل هذه الأمور التي تكبل العراق والعراقيين مستقبلياً. هذا ما نخشاه، وإلا فإننا نعتقد: إن الاحتلال غير مرشح للبقاء، بل هو مرشح للزوال.
_____________
(*)الحلقة الثانية من ندوة «الآفاق المستقبلية للمشروع النهضوي عربياً وإسلامياً» حيث عقدت الجلسة الثانية بتاريخ 21/11/2003 في نفس مكان الجلسة الأولى.
البريد الالكتروني
[email protected]جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد