الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

الأبحاث والدراسات

سماحة الشيخ حسين المؤيد
قرأت في موقعكم الإلكتروني كلاما لكم تحت عنوان ( إختصاص السنة بالنبي الأعظم دون غيره ) تذكرون فيه عدم التزامكم بتعريف علماء الإمامية لمصطلح السنة , و أنكم ترون أن أقوال أئمة آل البيت عليهم السلام و أفعالهم و تقريراتهم ليست من السنة , و ليست مصدرا للتشريع . مع أن ما يصدر عنهم عليهم السلام مأخوذ من النبي صلى الله عليه و آله و سلم , و قد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال : حديثي حديث أبي و حديث أبي حديث جدي و حديث جدي حديث رسول الله صلى الله عليه و آله . إذن ما يصدر عن الأئمة ليس رأيا و اجتهادا , و إنما هو ما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه و آله , فيكون من السنة , و هذا هو الفرق بين ما يصدر منهم عليهم السلام و بين أقوال غيرهم التي هي اجتهاداتهم . فما يصدر من الأئمة هو ما يصدر من رسول الله صلى الله عليه و آله لكن على لسانهم و أفعالهم فيكون مصدرا للتشريع . أرجو الجواب بتفصيل مع بيان دليلكم .

الجواب :-
هذا الموضوع من المواضيع المهمة و الخطيرة و الحساسة , و تترتب عليه نتائج مفصلية , و هو من المعالم الفاصلة بين المدرسة الشيعية و غيرها على مستوى العقيدة و ما يترتب عليها من البناء الفقهي , الأمر الذي يجعل الاختلاف بين الشيعة و السنة يتجاوز حدود الاختلاف المذهبي و التنوع في الإجتهادات الفقهية , فهو ليس كالاختلاف الإجتهادي بين المذاهب الأربعة فيما بينها . بل نستطيع القول بأن هذه القضية تضع حدا فاصلا بين منهجين متباينين لا يلتقيان , وهو ما يشكِّل عائقا أمام التقريب الحقيقي الذي يؤصل للوحدة المنشودة .
إن المدرسة الشيعية الإثنا عشرية ترى أن ما يصدر من الأئمة الإثني عشر هو مصدر للتشريع , و تعرِّف هذه المدرسة السنةَ بأنها قول المعصوم نبيا أو إماما و فعله وتقريره , فيعامل ما يصدر عن الأئمة معاملة ما يصدر عن النبي صلوات الله و سلامه عليه .
و ما ذكرته أنت في سؤالك هو ما يدور على الألسنة تبريرا و تذرعا , و لا يعبِّر عن المبنى الأساسي لهذه الفكرة , فهو يحاول تبرير التعامل مع ما يصدر عن الأئمة على أنه مصدر تشريعي , بنحو يصوِّرهم كرواة عن النبي عليه الصلاة و السلام , مع أن المبنى الأساسي لهذه القضية في العقيدة الشيعية غير ذلك .
و توضيح هذه القضية يحتاج إلى بحث تفصيلي يخرج عن نطاق الجواب على سؤال , لكننا سنسلط الضوء على هذه القضية بما تتضح معه من حيث مبانيها , و من حيث مناقشتها و نقدها . و ذلك في النقاط التالية :-
النقطة الأولى :- في كتب الحديث المعتبرة عند الإمامية روايات مروية عن الأئمة تكشف مصادر علم الأئمة بما يُخرج ما يصدر عنهم عن كونه مجرد رواية أو وراثة علم عن رسول الله عليه أفضل الصلاة و السلام , ففي معتبرة علي السائي عن أبي الحسن الأول موسى عليه السلام قال : مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه : ماضٍ وغابر و حادث , أما الماضي فمفسَّر , و أما الغابر فمزبور , و أما الحادث فقذف في القلوب و نقر في الأسماع و هو أفضل علمنا و لا نبي بعد نبينا . و هذه الرواية صريحة في أن من مصادر علم الأئمة بل هو أفضلها هو العلم الذي يقذف في قلوبهم و ينقر في أسماعهم , فهو علم يأتيهم من جهة الله عز وجل مباشرة كما يوحي به تعبير القذف في القلب أو عبر ملَك كما يظهر من التعبير بنقر في الأسماع . و في رواية أخرى إن الإمام إذا أراد أن يعلم شيئا أعلمه الله ذلك . و في معتبرة أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك و تعالى : ( و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان ) , قال : خَلق من خَلق الله عزّ و جلّ أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه و آله يخبره و يسدده , و هو مع الأئمة من بعده . و الرواية صريحة أيضا في أن مصدر علم الإمام هو ملَك أعظم من جبرئيل و ميكائيل يكون مع الإمام أي يرافقه فيخبره و يسدده . و في معتبرة زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : لولا أنا نزداد لأنفدنا قال : قلت : تزدادون شيئا لا يعلمه رسول الله صلى الله عليه و آله ؟ قال : أما إنه إذا كان ذلك عرض على رسول الله صلى الله عليه و آله ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر إلينا . ويستفاد من هذه الرواية أمران :-
الأول :- أن ما يروونه و ما ورثوه عن رسول الله عليه الصلاة و السلام لا يسدّ حاجتهم العلمية , و بالتالي لا يمكن أن يكون هو المصدر الأوحد لعلمهم , و ينتج ذلك أنه ليس كل ما يصدر عنهم فهو ما وصلهم عن رسول الله صلوات الله و سلامه عليه .
الثاني :- أنهم يزدادون من العلم من طريق غيبي , فإن فسرت الرواية على أن المقصود أن ازديادهم من العلم هو عبر ما يوصله ملَك اليهم , فهذا يعني أن علمهم مستقى من الله عبر الملائكة , غاية ما في الأمر أنه قبل أن ينتهي اليهم يعرض على رسول الله عليه الصلاة و السلام ليكون مطلعا عليه , و على الأئمة السابقين ليكونوا مطلعين عليه , كي لا يكون الإمام اللاحق أعلم من رسول الله ومن الأئمة الذين سبقوه . و إن كان المقصود من الحديث أنهم يزدادون علما عبر استنباطهم من كتاب الله , فإن هذا الإستنباط يعرض على رسول الله عليه الصلاة و السلام وعلى الأئمة السابقين فيقَر ثم ينتهي اليهم , فهو ليس وراثة عن رسول الله , و إنما سلك طريقا غيبيا من خلال عرضه على الرسول وهو في عالم البرزخ . و الظاهرمن عبارة ( أما إنه إذا كان ذلك عرض على رسول الله صلى الله عليه و آله ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر الينا ) أن المقصود بالرواية هو الأول .
إذن ما ورد في كتب الحديث المعتبرة عند الإمامية يكشف عن مصادر غيبية لعلم الإمام . و نحن هنا لم نورد كثيرا مما روي في هذا المجال , و إنما اقتصرنا على جملة من الروايات المعتبرة سندا حسب قواعد علم الرجال عند الإمامية , و إلا فالروايات في هذا المعنى و نحوه كثيرة . و قد أخذ بهذه الأحاديث أو بعضها جلّ علماء الإمامية إن لم نقُل كلهم , و بنوا عليها عقيدة الإمامية في اعتبار ما يصدر من الأئمة كالذي يصدر من رسول الله عليه الصلاة و السلام , لا من باب كونهم رواة أو ورثة لعلم وصلهم عن النبي .
و نحن إنما نذكر هذا تفنيدا للإعتذار و التبرير الذي يحاول البعض أن يمرر من خلاله اعتبار ما يصدر عن الأئمة على أنه من السنة بذريعة أنهم رواة و ورثة لما وصلهم من رسول الله عليه الصلاة و السلام , و إلا فإنني أرى أن الإعتقاد بالروايات المتقدمة التي تكشف عن مصادر غيبية لعلم الأئمة ما هو إلا انحراف و فساد في العقيدة , و أن فكرة استناد الأئمة في علمهم الى مصادر غيبية هي فكرة باطلة وغلو ضال و ليس لها أدنى نصيب من الصحة , فهي من جهة التفاف على مفهوم النبوة يجعل الفارق بين النبي و الإمام فارقا شكليا , فلا يوجد فارق جوهري , و بالتالي فهذا المفهوم يتناقض تماما مع ختم النبوات , مضافا الى استلزامها القول بأن رسول الله عليه أفضل الصلاة و السلام قد قبض و لم تكتمل الشريعة و لم يكمل الدين و هو يخالف صراحة قوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا ) , كما أنها تتنافى و الثقافة القرآنية التي يفهمها المسلم من كتاب الله تعالى و القاضية باختصاص السفارة بالأنبياء و الرسل , و اختصاص ما ينزل من السماء عبر الملائكة بالأنبياء و الرسل , فهي منافية للقرآن الكريم .
النقطة الثانية :- إذا كان ما يصدر من الأئمة ليس سوى ما وصلهم من رسول الله صلوات الله و سلامه عليه , فلماذا لم يلتزموا بنسبة ما يصدر منهم اليه مباشرة , لا سيما و أن هذه النسبة ستجعل حديثهم أوقع في النفوس , و تجعل محوريتهم لجميع المسلمين أقوى , و تبيّن عالي مكانتهم بوصفهم أهل بيت النبي الأكثر إطلاعا على سنته و علمه , و أن ما وصل اليهم أغزر مما رواه غيرهم , بل إن ما وصلهم قد تميّز فيه الناسخ من المنسوخ و العام من الخاص و المطلق من المقيّد . بل ستكون لهم الحجة على غيرهم فيما يذهبون اليه استنادا الى سنة النبي عليه الصلاة و السلام , و هم غير متهمين على حديث رسول الله عليه الصلاة و السلام و لا على مجموع سنته .
و نحن نجد أن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام قد ميّز في مجموعه بين ما وصله من رسول الله عليه الصلاة و السلام , و ما يعبِّر عن رأيه و فتواه , فكان له مجموعه الحديثي و الفقهي , فكان إذا أفتى بفتوى فيها نص وصله عن النبي عليه الصلاة و السلام , ذكرها بصيغة الرواية و التحديث عن النبي , و التزم بذلك في كل مجموعه . فإذا كان ما يصدر عن الأئمة عند الإثنا عشرية من هذا القبيل فلماذا لم يلتزموا في بياناتهم بنسبة ذلك الى النبي صلوات الله و سلامه عليه . بل إننا وجدنا فيما أثر عنهم أنهم ربما رووا عن رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم , الأمر الذي يدلل على أن ما صدر عنهم بغير صيغة التحديث عن النبي ليس شيئا مأخوذا من نص نبوي , و إنما هو فتوى لهم اعتملت فيها عناصر الإجتهاد و الإستنباط , و إن كان له مستند من كتاب الله و سنة رسوله عليه الصلاة و السلام , كما هو الحال في غيرهم من أعلام الدين من فقهاء الصحابة و التابعين .

لنقطة الثالثة :- إن عقيدة الإمامية في شمول مصطلح السنة عندهم لما يصدر من الأئمة و عدم اختصاصه بالنبي عليه الصلاة و السلام , لا تقوم على أساس أنهم مجرد رواة عن النبي , و لا على أساس أنهم ورثة سنته بمعنى اجتماع ما صدر عنه صلوات الله و سلامه عليه عندهم , و إنما على أساس أنهم المرجعية الوحيدة لسنة النبي , و القيِّمون عليها , و أن هذه القيمومة هي أحد الأبعاد الرئيسة في إمامتهم .
و التأصيل الذي يذكره علماء الإمامية لهذه القضية هو أن السنة النبوية لا يمكن أن تكون مرجعا يجب على عموم المسلمين في كل عصر و جيل أن يتمسكوا بها , إلا في إحدى حالتين :-
الأولى :- أن تكون هذه السنة قد جمعت و دونت على عهد النبي عليه الصلاة و السلام و حددت مفاهيمها .
الثانية :- أن يكون هناك مسؤول عنها و عارف بها معرفة كاملة بحيث يكون هو القيِّم عليها و المرجع فيها .
و بما أن الحالة الأولى غير حاصلة , لأن السنة النبوية لم تكن مجموعة و لا مدونة على عهد رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم , و لم تكن محددة المفاهيم , بل فيها الناسخ و المنسوخ و العام و الخاص و المطلق و المقيّد , و قد كان رسول الله عليه الصلاة و السلام يفتي بالفتيا و يحكم بالحكم و يتحدث بالحديث بحضرة من حضر من أصحابه , و ربما لا يكون سوى الواحد و الإثنين , و لم يحدثنا التاريخ أنه صلوات الله و سلامه عليه كان يجمع أصحابه جميعا أو جلهم و يبلغهم بما يصدر عنه من أحكام , الأمر الذي يعني العجز عن الإطلاع على السنة النبوية , فماذا يصنع من يريد التمسك بسنة النبي من بعده ؟ هل يظل يبحث عن جميع الصحابة و هم كثر متفرقون في البقاع ليسألهم عن الحكم الذي يروم معرفته؟ , أو يكتفي بمن يراه منهم و هو لا يجزيه لاحتمال صدور الناسخ أو المقيِّد أو المخصص وهو عند من لم يجدهم , و لا يجوز العمل بالعام أو المطلق قبل الفحص عن مخصصه أو مقيِّده , فيكون الأمر بالتمسك بالسنة في و الحالة هذه تعجيزيا . إذن لم يبق سوى الحالة الثانية فهي الضمانة لبقاء الشريعة و حفظ السنة و تمهيد سبيل التمسك بها . و على هذا الأساس قام الرسول عليه الصلاة و السلام و هو الحريص على الدين و على عدم التفريط بالرسالة بالإرجاع الى أهل البيت و بيان إمامتهم من بعده . و قد دلّ هذا الإرجاع على أمرين أساسيين :-
الأول :- أنه مستند الى تكليف من الله تعالى , و إلا فالنبي عليه الصلاة و السلام مضافا الى كونه معصوما , لا يتصرف فيما يعود الى شؤون الدين و الرسالة بمعزل عن توجيه الله تعالى له . و هذا يعني أن مرجعية أهل البيت قد جعلت من قبل الله عزّ و جلّ .
الثاني :- أن أهل البيت هم المحيطون بالسنة النبوية , و العارفون بها معرفة كاملة , دون غيرهم , و إلا لما انحصرت المرجعية بهم .
و بهذا التأصيل تقضي عقيدة الإمامية أن ما يصدر من الأئمة هو مصدر تشريعي لا باعتبارهم مجرد رواة , و إنما بوصفهم القائمين على السنة النبوية و المرجع الوحيد لها .
و هذه الفكرة التي أخذت صفة العقيدة بما تنطوي عليه من التأصيل هي محلّ مناقشة معمَّقة . و تتضح أوجه الخلل فيها من خلال الملاحظات التالية :-
الملاحظة الأولى :- إن هذه القضية لو صحت لكانت مرجعية أهل البيت عليهم السلام من أصول الدين و أركانه الأساسية , و لتوقف التعبد بالشرع الحنيف عليها , و بدونها ستقع الأمة في ضلال عظيم و مبين , و من ثَم كان اللازم أن تقوم عليها الحجة الواضحة الدامغة الخالدة التي تبقى لائحة على مرِّ الأجيال المتعاقبة , و أن لا تقلَّ الحجة عليها عن مستوى الحجج التي أقيمت على الناس فيما يتصل بالتوحيد و النبوة و المعاد و غيرها من أساسيات الإيمان , و قد قال تعالى : ( و ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) , و من الجليّ أن البيان لا بد أن يكون واضحا دامغا قاطعا للّجاج خالدا لئلا يكون للناس على الله حجة , فالأمر يتصل بما هو ركن أساسي في الدين و أصل في الإيمان .
و لا بد في الحجة التي تقام على هذه القضية , كسائر الحجج التي تقام على ما هو بمستوى الأصل في العقيدة و الركن في الدين أن تكون من كتاب الله عزّ و جلّ , لأنه وحده الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه , و لا يعترضه الريب , وهو الذي تكفل الله تعالى بحفظه , و به تكون الحجة خالدة , فلا تكون في معرض النسيان أو التغييب أو التلاعب . و لابد أيضا أن تكون الحجة قائمة بالمحكم من آيات الكتاب , لأن قيامها بالمتشابه نقض للغرض و خلف كونها حجة واضحة دامغة لا يعتريها الريب , و لا ينفتح منها مجال للزيغ و الإختلاف . و نحن نجد قيام الحجة على أصول الإيمان و أركان الإسلام في كتاب الله تعالى و بمحكمات آياته , فلم يهمل القرآن إقامة الحجة على ذلك , و لم توكل إقامة الحجة الى النبي دون القرآن .
و أما السنة الشريفة , فلا يصح منهجيا أن تكون هي الحجة على ذلك , لأن الحجة لا بد أن تكون خالدة قاطعة , بينما السنة إذا لم تتوفر فيها شروط تجعلها بمنزلة آيات الكتاب المحكمة , لا تقام بها الحجة على الأصول و الأركان , لأنها ربما تكون في معرض النسيان أو التغييب أو التلاعب و لو بطول العهد و المدة . كما إنه بناء على التأصيل الذي تقدم بشأن مرجعية أهل البيت عليهم السلام , لا يصح أن تكون السنة حجة عليها , لأن السنة على ذلك التأصيل هي بنفسها بحاجة الى مرجعية , و إلا لقائل أن يقول : إن الرجوع الى الموجود من أحاديث بشأن مرجعية أهل البيت لا يجزي لاحتمال صدور الناسخ أو المخصص أو المقيِّد , أو تم الإعتماد على قرائن منفصلة , و كل ذلك غير مدوَّن , أضف الى ذلك انتشار الكذب و الوضع و الدس للأغراض المتنوعة , فلا يمكن أن تقوم الحجة على قضية كهذه من خلال السنة , و إنما لا بد في ذلك من قيامها بمحكمات الكتاب .
و المتتبع لآيات القرآن الكريم لا يجد آية واحدة محكمة تدل على المرجعية المنحصرة لأهل البيت , و قيمومتهم على السنة النبوية و الشرع , و ما يستدل به من آيات كريمة مضافا الى عدم دلالتها , فإن أقل ما يقال فيها أنها ليست بمستوى ما تتطلبه الحجة الواضحة الدامغة القاطعة , و من ثَم وقع في الإستدلال بها النقض و الإبرام , و الإجتهاد و الإختلاف , لأنها تحتاج الى النظر الذي تتفاوت فيه الأفهام . بينما الآيات التي نهضت بحجج التوحيد و النبوة و المعاد و غير ذلك من الأركان هي مما لا يقبل الإختلاف و لا مجال فيها للنظر , فل هناك مجال للإختلاف في دلالة قوله تعالى : ( إنما إلهكم إله واحد ) على وحدانية الله تعالى , أو دلالة قوله تعالى : ( محمد رسول الله ) على نبوته , أو دلالة قوله تعالى : ( ثم إنكم يوم القيامة لمبعوثون ) على المعاد , و هلم جرا . فأين الحجة من محكمات الكتاب بهذا المستوى من البيان الذي لا يمكن أن يقع فيه الإختلاف مهما تقادم الزمن على قيمومة أهل البيت على السنة و الشرع ؟ .
و هكذا نصل الى نتيجة أن مرجعية أهل البيت للسنة و قيمومتهم عليها لم تقم عليها الحجة المطلوبة في ثبوتها , و عدم قيام الحجة المطلوبة عليها يساوق عدم وجودها في الدين , لأن وجودها في الدين يستدعي بالضرورة قيام الحجة المطلوبة في ثبوتها عليها .
الملاحظة الثانية :- إن مرجعية أهل البيت عليهم السلام لو كانت ثابتة , لكان اللازم أن يقوم رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم بتربية الأمة عليها , لأنه منزه عن التفريط بالرسالة , و يلزمه لحفظ الشريعة أن يرسخ هذه المرجعية في الأذهان و النفوس بنحو تبقى راسخة قائمة في الأمة لا يتمكن أحد من طمسها . مع أن المتتبع لسيرته عيه أفضل الصلاة و السلام لا يقف على شيء من ذلك , فلم يعهد منه صلوات الله و سلامه عليه التباني على إرجاع الصحابة الى علي عليه السلام و لو من باب أن مشاغله لا تعطيه الفرصة الكاملة لتغطية حاجة الناس دينيا , و لم يعهد أن سيرته قامت على نصب علي عليه السلام حكما بين الناس عند الإختلاف في أمور الدين , و لم ينقل الينا أن النبي عليه الصلاة و السلام أمر عليا أن يجلس في المسجد ليفتي الناس بما تعلمه من رسول الله و ما خص به من علم في هذا المجال , و لم ينقل الينا أن النبي عليه الصلاة و السلام و بعد اتساع رقعة الإسلام أعطى توجيهاته للمسلمين في البقاع أن يرجعوا الى علي عليه السلام , و أمثال ذلك من التصرفات العملية التي ترسخ في أذهان الجميع قيمومة علي عليه السلام على السنة و كونه المرجع الوحيد في معرفتها .
فإن قيل : قد صدرت من النبي عليه الصلاة و السلام أحاديث شتى و بمناسبات متنوعة في هذا الشأن .
قلنا : لا يكفي ما صدر في ترسيخ هذا الأمر , فبعضه لا يدل على القيمومة على الشرع , و بعضه لم يأت بصيغة بيان عام للناس , و بعضه لم يثبت على نحو التواتر . و هذا المقدار ليس هو الذي يرسخ عمليا هذه القضية , و لا يكفي لتربية الأمة عليها بنحو يجعلها قائمة في الأمة تنعقد عليها سيرتها العملية كدين لا محيد للمسلم عنه , كما ترسخت قضايا كثيرة تربت عليها الأمة و انعقدت عليها السيرة العملية حتى في قضايا فرعية كصلاة الجماعة مثلا .
الملاحظة الثالثة :- إن المتتبع في القرآن الكريم و سيرة النبي العظيم يجد منحى آخر يغاير منهج حصر القيمومة على الشرع بأهل البيت عليهم السلام , فمن جهة لم يرد الأمر بالإتباع و لا الحث عليه في القرآن الكريم إلا في اتباع القرآن ( فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) , و اتباع النبي ( فآمنوا بالله و رسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله و كلماته و اتبعوه لعلكم تهتدون ) , و اتباع السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار ( و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعدَّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) , و ورد التحذير من اتباع غير سبيل المؤمنين ( و من يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى و نُصلِه جهنم و ساءت مصيرا ) . و لا يذكر القرآن الكريم في مقام التنازع إلا مرجعية الله و الرسول ( فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله و الرسول ) . و من جهة ثانية نجد قوله تعالى : ( و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ) و هذه الآية تؤصِّل منهج التفقه في الدين و تجعل المرجعية للفقيه في الدين , و هي باقية على إطلاقها , و قد كان تطبيقها العملي في زمن رسول الله عليه الصلاة و السلام هو التفقه على الرسول , و كان هذا التفقه كفيلا بأن يجعل المتفقه مرجعا فيما تعلمه , و كان هذا هو المنهج المتبع بين المسلمين منذ جيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم , و لم يرد أن رسول الله صلوات الله و سلامه عليه بمناسبة هذه الآية قد أرشد أصحابه و سائر المسلمين الى التفقه على أهل البيت دون سواهم .
و أما السيرة , فقد كان رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم يتولى تعليم الأحكام للناس و كان في الصحابة من عرف بالفقه و العلم , و كان رسول الله عليه الصلاة و السلام يرسل الصحابة لتعليم الدين .
فهذا هو المنهج الذي ترسخ بين الناس و انعقدت عليه سيرة المسلمين . نعم كان الصحابة يتفاوتون في العلم و الفقه , و كل يفتي بما يعلم , و يرجع عند الإختلاف الى المعروفين بالعلم و الفقه , و لا شك في أن الإمام عليا عليه السلام كان البارز في هذا المجال , و لكن ذلك غير قضية المرجعية المنحصرة و القيمومة على السنة و الشرع .
الملاحظة الرابعة :- إن الشريعة لو كانت بحاجة الى القيِّم عليها بعد رسول الله صلوات الله و سلامه عليه بحيث يتوقف حفظها على ذلك , و لولا القيمومة لكانت الشريعة في معرض الضياع و التغيير , و تاهت الأمة في الضلالة , لكان الواجب على الله تعالى من باب اللطف أن يمكِّن للأئمة إمامتهم في الواقع الخارجي كما مكَّن لرسول الله عليه الصلاة و السلام , و ذلك من أمر الله الذي قال تعالى عنه : ( و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ) , لا سيما و أن الله تعالى جعل الإسلام خاتمة الديانات السماوية , و تكفَّل بإظهار هذا الدين على الدين كله , و التمكين لهذا الدين , قال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا و من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) . و قد تحقق التمكين للدين على عهد رسول الله عليه الصلاة و السلام و من بعده لا سيما في عهد أبي بكر و عمر رضي الله تعالى عنهما .
و من الواضح أن وجود الإمام من غير تمكين لن يحقق الغرض , لأنه لن يكون قادرا على حفظ الشريعة , و وقاية الأمة من الضلالة , كيف و أكثرية الناس لا ترى إمامته و قيمومته على الشرع , و ما يصدر عنه من أحكام لا تأخذ به غالبية الأمة , و يكون اجتهاد غيره ظاهرا عليه , بل على ما يعتقد الشيعة سيكون مضطرا الى كتمان بعض الأحكام , و الى التقية في الأحكام فيصدر عنه ما هو مغاير للحكم الواقعي , و كلما تمادى الزمن كلما اشتد عجز الناس عن معرفة الإمام , أضف على ذلك أن الإمام في غيبته لا يتمكن من النهوض بحق حفظ الشرع .
إذن كيف تحفظ الشريعة من غير تمكين ؟ . و ليس من المنطقي و لا من المعقول أن تبقى الأمة سادرة في الضلالة حتى يظهر القائم و هو لا يحكم إلا حفنة من السنين فقط . أ فيعقل أن يرضى الله تعالى للأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس , و التي أرادها الله تعالى أن تكون بالإسلام أمة وسطا شاهدة على الناس أن تمر عليها القرون الطويلة و هي في الضلال و الشريعة لا ينهض من يحفظها لعدم التمكين له , ثُم يقال إن الغاية تتحقق في حفنة من السنين في آخر الزمان حين يظهر المهدي ؟ .
فإن قيل : إن إعراض الناس عن الإمام الحق هو الذي أوقعهم في الضلالة فهم يتحملون مسؤولية ذلك .
قلنا : إن الناس لم تُقَم لهم الحجة الواضحة الدامغة الخالدة كي يكونوا مسؤولين , ثُم ما ذنب الأجيال التي تلي و هي مخلصة في إيمانها و حرصها على الإلتزام بدينها , فكيف يأخذها الله تعالى بجريرة من تخلّف من الجيل الأول - حسب الفرض - , و كيف يتركها الله تعالى في الضلالة لتخلف الجيل الأول - حسب الفرض - , على أن الكلام هو في وجوب التمكين في الواقع للقيِّم على الشرع لتحقيق مقاصد الشرع شاء من شاء و أبى من أبى , و من أجل أن لا يحقق المعرضون - حسب الفرض - أغراضهم .
الملاحظة الخامسة :- إن أهل البيت الذين اختارهم الله تعالى - حسب الفرض - للقيمومة على السنة النبوية الشريفة و على الشرع , و عهد اليهم بهذه المسؤولية الجسيمة ليس لهم شيء مدوَّن من قبلهم فيه بيان للسنة و تمييز للناسخ من المنسوخ وبين الحكم العام و الخاص , و الحكم المطلق و المقيّد , و بين محكمات السنة و متشابهاتها , و بين ما يصح عن رسول الله عليه الصلاة و السلام و ما هو مكذوب عليه , و الرد على الإجتهادات الخاطئة للآخرين من خلال بيان مخالفتها للسنة الصحيحة . فليس لأهل البيت شيء مدوَّن من قبلهم يحفظ به الشرع و تستبين به سنة النبي التي هم القوام عليها و المرجع الوحيد فيها . و كل ما هو موجود ليس سوى أحاديث تروى عنهم اعتمدوا فيها على القرائن المنفصلة , و اختلط فيها العام و الخاص و المطلق و المقيّد , و فيها المحكم و المتشابه , و كل ذلك مشتت موزع بين الرواة , وفي الرواة من هو الثقة و من هو الضعيف و الكذاب , و فيهم من أخذ الأحاديث ضابطا لها و فيهم غير الضابط و فيهم من ينتمي الى فرق فاسدة , و قد نالت يد الدس و التحريف مما روي عن أهل البيت , و ضاعت كثير من الكتب و الأصول التي كتبها الرواة عنهم , و ليس لدى الشيعة كتاب واحد يجمعون على صحة ما فيه , هذا غير التعارض بين الأخبار الذي وقع كثيرا في أحاديثهم حتى أصبح ما أثر عنهم بحاجة الى القيِّم . و مع هذا كله كيف يرجع اليهم في معرفة السنة النبوية ؟ و معرفة أحكام الشرع لا سيما الواقعية ؟ , أوَ ليس السبب المذكور في تأصيل مرجعية أهل البيت و قيمومتهم على السنة موجود بذاته و بنحو أشد فيما أثر عنهم ؟ . بل ربما جرّ الإستفهام الى استفهام آخر حاصله أن حفظ الرسالة و الشرع و سنة النبي إما أن لا يكون قد عهد بها الى أهل البيت على وجه الخصوص , أو عهد بها اليهم لكنهم لم ينهضوا بها تقصيرا و لذا لم يتركوا شيئا مدونا وافيا ببيان السنة و الشرع , أو لم ينهضوا بها قصورا لعدم التمكين لهم و عدم مواتاة الظروف . أما التقصير فلا يحتمل في حقهم لورعهم و أمانتهم و حرصهم على الدين و الأمة , و أما القصور فيعني أن جعل القيمومة لهم على الشرع سيكون عبثا و لغوا لعدم تمكنهم من تحقيق الغرض , و العبث و اللغو لا يحتمل في حق الشارع الحكيم , فلم يبق سوى الفرض الأول و هو الصحيح , حيث لم تجعل القيمومة على السنة و الشرع لهم .
الملاحظة السادسة :- لو كانت المرجعية المنحصرة , و القيمومة على السنة و الشرع ثابتة لأهل البيت عليهم السلام , لكان من أوائل من التزم بها من الصحابة من يعتقد الشيعة بأنهم كانوا من شيعة علي عليه السلام , مع أننا نجد أن هؤلاء كانوا يحدثون الناس عن رسول الله عليه الصلاة و السلام , و يفتونهم بأحاديث النبي , و لم يمتنعوا عن ذلك , مع أنهم لو كانوا يرون أن القيمومة على السنة و الشرع هي لأهل البيت , و اليهم يجب أن يرجع الناس , لما ساغ لهم أن يفتوا بأحاديث النبي عليه الصلاة و السلام , و لنوهوا بأن المرجع في ذلك هم أهل البيت . فهذه أم المؤمنين أم سلمة عليها السلام كانت تحدِّث عن رسول الله صلوات الله و سلامه عليه بأحكام الشرع , بل روى عنها أئمة آل البيت , ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل قال : حدثنا يحي بن سعيد عن جعفر بن محمد قال : حدثني أبي عن علي بن حسين عن زينب ابنة أم سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أكل كتفا فجاء بلال فخرج الى الصلاة و لم يمس الماء . و قد كان سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي و يفتي الناس بحديث رسول الله عليه الصلاة و السلام , و من ذلك فتواه بالمسح على الخفين , ففي مسند الإمام أحمد عن أبي مسلم مولى زيد بن صوحان العبدي قال : كنت مع سلمان الفارسي فرأى رجلا قد أحدث و هو يريد أن ينزع خفيه للوضوء فأمره سلمان أن يمسح على خفيه و على عمامته و يمسح ناصيته , و قال سلمان : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم مسح على خفيه و على خماره . علما أن فتوى سلمان رضي الله عنه لا توافق ما عرف عن مذهب آل البيت من عدم جواز المسح على الخفين . و كذلك الحال في عمار بن ياسر و أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنهما , فقد رووا الكثير من الأحاديث , و أفتوا الناس بحديث النبي . بل تجد ذلك عند آل البيت ممن لا يراهم الإمامية أئمة , لكن يوثقونهم و يعتقدون بعدالتهم و جلالتهم كزيد بن علي الشهيد الذي له مجموعه الحديثي و الفقهي , و قد كان يعدّ من أعلام آل محمد المشهود لهم بالعلم و الفقه , مع أنه عاصر أخاه محمد بن علي الملقب بالباقر , و عاصر ابن أخيه جعفر بن محمد الصادق , و لم يكن يعتقد بقيمومتهما على السنة و الشرع , فكان يحدث و يفتي . و لا يحتمل في حق زيد عدم الإطلاع على هذه القضية لو كانت ثابتة , و لا يحتمل في حقه و هو المعروف لدى الجميع بورعه أن يتمرد و يعصي في هذا الأمر . كما أن الإمام أحمد أورد في مسنده روايات لأم هانيء بنت أبي طالب أخت الإمام علي عليه السلام تحدث فيها عن رسول الله عليه الصلاة و السلام في أمور تتصل ببعض الأحكام الشرعية , فلم تمتنع عن ذلك لانحصار المرجعية و القيمومة بالإمام علي و الأئمة من بنيه . بل كان نفس أئمة أهل البيت يروون أحاديث النبي عليه الصلاة و السلام عن الصحابة و التابعين , فقد روى أبو جعفر الباقر عن أم المؤمنين عائشة و أم المؤمنين أم سلمة عليهما السلام , و عن ابن عباس و عن ابن عمر و أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم , و روى عن سعيد بن المسيب . و روى في سير أعلام النبلاء عن عبدالله بن محمد بن عقيل قال : كنت أنا و أبو جعفر نختلف الى جابر نكتب عنه في ألواح . و قد روى جعفر الصادق عن عروة بن الزبير و عطاء بن أبي رباح و جده القاسم بن محمد و عن الزهري وغيرهم .
الملاحظة السابعة :- إن التأصيل الذي اعتمدته عقيدة الشيعة الإمامية يصوِّر السنة النبوية الشريفة على أنها أحاديث متناثرة كانت تلقى في مناسبات شتى على نطاق محدود في الغالب و تعتمد القرائن المنفصلة , فالإرجاع اليها تعجيزي , و من ثَم لا بد من مرجعية لها القيمومة على السنة يرجع اليها في معرفة السنة و ما تنطوي عليه من أحكام و مفاهيم .
و لا شك في أن هذا التصوير غير صحيح , و مخالف للواقع و لمنطق طبيعة الأشياء . و لتوضيح ذلك لا بد من الإلفات الى ما يلي :-
أولا :- إن للرسول الأعظم صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم الدور الأساسي و المحوري في الرسالة الإسلامية , فهو ليس مجرد بشير و نذير , و لا مجرد رسول لإيصال الوحي و الكتاب الى الناس , و إنما هو الذي يقوم بتعليم الكتاب و مفاهيم الإسلام و أحكامه و تربية الناس على تعاليم الدين . و قد تكرر في القرآن الكريم في آيات بينات بيان هذا الدور المحوري للنبي عليه الصلاة و السلام , قال تعالى : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا و يزكيكم و يعلمكم الكتاب و الحكمة و يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) , و قال تعالى : ( لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) , و قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) , و قال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرِّم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم ) .
و هذا الدور المحوري للرسول عليه الصلاة و السلام لا يمكن أن يكون قد تمَّ في إطار بيانات متناثرة تلقى في مناسبات شتى على نطاق محدود في الغالب و تعتمد القرائن المنفصلة , فطبيعة الدور و طبيعة مهمة التزكية و تعليم الدين و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تتعدى ذلك و تقتضي بعدا عاما و إطارا مجتمعيا و حركة من نوع آخر .
ثانيا :- إدراك الصحابة رضي الله تعالى عنهم للدور المحوري لرسول الله صلوات الله و سلامه عيه في بيان الدين و أهمية ما يصدر منه من أقوال و أفعال , مضافا الى التزامهم الديني الذي يستدعي بالضرورة الحرص على الحصول على المعرفة بالدين و استيعاب ما يصدر من النبي الأعظم عليه الصلاة و السلام , و هذا يعني وجود آليات للمعرفة الدينية و حركة باتجاه تحقيق غرض المعرفة الدينية .
ثالثا :- إن قوله تعالى : ( و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ) قد دل على أن التفقه في الدين حالة قائمة في المجتمع على عهد الرسول عليه الصلاة و السلام . أضف على ذلك ما صدر عن رسول الله صلوات الله و سلامه عليه من توجيهات بشأن التفقه في الدين و و هي توجيهات لم تكن مجرد كلمات قيلت و إنما أخذت طرقها للعمل .
رابعا :- إن المجتمع الذي بناه رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم , و الدولة التي أنشأها كانا قائمين على شرع الله تعالى , فنظام حياة الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان قائما على الشرع , و معنى ذلك هو أن ما يصدر عن الرسول عليه الصلاة و السلام لا بد أن يأخذ مدى عاما في الإنتشار و التطبيق .
و في ضوء ذلك تتجلى لنا حقيقتان :-
الأولى :- إن النبي كان يمارس عملية التربية الدينية و التعليم الديني على نطاق عام , و كان هناك اتجاه عام لدى الصحابة للتفقه في الدين و التعرف على ما يصدر من الرسول عليه الصلاة و السلام , و كان ما يسمى في ذلك الوقت بتبليغ الشاهد الغائب يمارس على نطاق عام .
الثانية :- إن ما يصدر من الرسول عليه الصلاة و السلام كان يتحول الى حالة عملية تنعقد عليها سيرة الناس عمليا , لأن نظام الحياة كان قائما على أساس ما ينزل من آيات الكتاب و ما يصدر من الرسول صلوات الله و سلامه عليه .
و تتشكل السنة النبوية من معطيات هاتين الحقيقتين , و قد جاء إطلاق السنة منسجما مع معناها اللغوي و هو الطريقة و السيرة , فالسنة النبوية هي ما انعقد عليه العلم و العمل على أساس ما صدر عن النبي الأعظم صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم , و الى السنة بهذا المعنى كان الإرجاع , وهو معنى غني عن أية قيمومة و مرجعية خاصة بل يرد ما تشابه من الحديث المروي و ما اختلف فيه من الأحاديث الى السنة , و هذا يعني أنها مرجعية قائمة بذاتها الى جانب كتاب الله تعالى . و قد كان هذا المعنى مترسخا في أذهان الصحابة لا سيما الفقهاء منهم , فعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بعثه الى اليمن فقال : كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله , قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم , قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو . قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم صدري ثم قال : الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله .
و هكذا نصل الى أن اعتبار ما يصدر من أهل البيت عليهم السلام على أنه جزء من السنة , فيكون مصدرا تشريعيا , على أساس قيمومتهم على السنة و الشرع , هو نظرية خاطئة , و ليس لها مستند صحيح .
فالنتيجة هي اختصاص السنة بالنبي الأعظم صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم .
 

السابق

 

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com