الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

الأبحاث والدراسات

محاضرات الإمام المؤيد في أصول الفقه تعليقا على كتاب المستصفى للإمام الغزالي

 

 تعريف علم أصول الفقه

قوله :- بيان حدّ أصول الفقه
أقول :- قبل بيان تعريف علم أصول الفقه , لا بد من معرفة النقاط التالية :-
النقطة الأولى :- في كل علم من العلوم ثلاثة أمور كانت تسمى بأجزاء العلوم :-
الأول :- المسائل , و يراد بها القضايا التي يبحث عنها في ذلك العلم , و هي تشكّل قوام كل علم . و كل مسئلة عبارة عن قضية لها موضوع و محمول . و هذه المسائل تارة تحتاج الى إثبات و هو الغالب , و أخرى لا تحتاج الى إثبات .
الثاني :- المباديء , و هي التي تتوقف معرفة مسائل العلم عليها . و تنقسم الى مباديء تصورية , و هي عبارة عن حدود موضوعات المسائل و محمولاتها , أي ما يعرّف الموضوع و المحمول تصورا , و تندرج فيها المعرفة التصورية للنسبة بين المحمول و الموضوع . و مباديء تصديقية , و هي القضايا التي يستدل بها على ثبوت المحمول للموضوع , و هي قد تكون بديهية فتسمى علوما متعارفة , و قد تكون نظرية إلا أن المتعلم يذعن بها فتسمى بالأصول الموضوعة , و قد لا يذعن بها فتسمى بالمصادرات .
و قد أضاف البعض في خصوص أصول الفقه قسما ثالثا أسموه المباديء الأحكامية , و أرادوا بها ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية . و كأن الوجه في إضافة هذا القسم في خصوص علم أصول الفقه هو أن الحكم الشرعي ليس موضوعا في المسائل الأصولية و لا محمولا , فلا تعتبر القضايا التي يتوقف عليها معرفة الحكم الشرعي مباديء تصورية لعلم أصول الفقه , و إنما هي مباديء تصورية لعلم الفقه الذي يكون الحكم الشرعي محول مسائله , إلا أن علم أصول الفقه بحاجة الى معرفة هذه القضايا فأضيفت لتكون في خصوص أصول الفقه قسما ثالثا سمّي بالمباديء الأحكامية . و لا يخلو ذلك من نظر لكون الحكم الشرعي جزء من العديد من مسائل علم أصول الفقه نفسه فتكون هذه القضايا مباديء تصورية له .
الثالث :- الموضوع , و قد عرّف موضوع كل علم بأنه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية .
و الصحيح أن يقال : إن موضوع كل علم هو المحور الذي تدور حوله المسائل المشتتة التي يجمعها ذلك المحور , و هو الذي يحقق وحدة العلم و تمايزه عن سائر العلوم .
و محور العلم يعبر عن حقيقة موضوعية , فله ثبوت واقعي في نفس الأمر , و من ثَم كانت وحدة العلم ثابتة في مرتبة أسبق من تدوينه . فالموضوع هو ما يكون محورا لبحوث العلم بحسب المناسبات الواقعية التي تتطلبها طبيعة تلك البحوث كما سيتضح عند بيان الإتجاه التأليفي للعلوم .
و على هذا الأساس يتضح لزوم وجود محور لكل علم , يوحّد أبحاثه و يجمع شتات مسائله , و يميزه عن غيره , فإن تمايز العلوم إنما هو بالموضوعات , أي بالمحاور بالمعنى المتقدم .
النقطة الثانية :- هناك اتجاهان في سير أي علم من العلوم , نصطلح على الإتجاه الأول الإتجاه التأليفي أو التكويني للعلم , و على الثاني الإتجاه التنظيمي أو التدويني للعلم .
و نريد بالإتجاه التأليفي ما يقوم به الباحث من تجميع لمسائل مشتتة تدور حول محور واحد يتعلق به غرض الباحث . و لنتخذ من علم النحو مثالا لتوضيح الفكرة , فإن صيانة اللسان عن اللحن في الكلام هي غرض للنحوي دعاه الى معرفة ضبط أواخر الكلم , لأن ذلك هو الذي يصون - عند مراعاته - اللسان عن اللحن . فعلى هذا الأساس يجمع النحوي المسائل المشتتة التي ترتبط بضبط أواخر الكلم , و يسجل ذلك على شكل قواعد تجتمع في إطار علم النحو . و من ثَم نجد أن لا همّ للنحوي إذا واجهته كلمة إلا بمقدار ما يرتبط بضبط آخرها حسب موقعها في الجملة , دون الإهتمام بوزنها الصرفي أو باشتقاقها , فإذا سئل عن السبب في إهمال هذا الجانب أجاب بأنه خارج عن محل البحث , و يريد بذلك عدم ارتباطه بالمحور الذي تعلق به الغرض .
و إذا أردنا أن نعطي تصورا دقيقا عن بحث النحوي , نقول إنه يبحث عما يعرض على أواخر الكلم من حركات , و يعرّف علم النحو على أساس ذلك بأنه العلم الباحث عن ضبط أواخر الكلم إعرابا و بناء , و يعبّر هذا التعريف عن الإتجاه التأليفي لعلم النحو , و أساس تكوينه على يد النحاة .
و أما في الإتجاه التنظيمي للعلم , فلا يجد الباحث نفسه ملزما برعاية محور العلم في كل ما يدونه من مسائل , فقد يدوّن مسائل لا ترتبط بمحور العلم الذي تعلق به غرضه , و يكون الهدف من التدوين تمهيد مقدمات بعض المسائل أو الإستطراد أو لعدم بحثها في علم آخر مع وجود المناسبة لبحثها فيما يدونه , و غير ذلك من الأسباب .و ربما يُخرج مسائل ترتبط بالمحور الذي تعلق به غرضه لأسباب منها كون المسئلة مبحوثة في علم آخر و لا يجد ضرورة لتدوينها أو كونها غير خلافية أو لا تحتاج الى إثبات , و غير ذلك من الأسباب .
و مما ذكرنا في الإتجاه التأليفي يظهر بطلان القول بأن العلوم قد تكون عبارة عن مسائل تجميعية لا يربطها جامع فني . و وجه البطلان هو أن كل علم و فن لابد في تشكّله من غرض يتعلق بمحور أصلي تجتمع على أساسه المسائل المشتتة التي ترتبط في نفس الأمر و كحقيقة موضوعية بذلك المحور الذي له في حد نفسه و كحقيقة موضوعية أيضا ثبوت واقعي بغض النظر عن وجود المحصِّل له .
النقطة الثالثة :- إن التعريف الفني لأي علم من العلوم لا بد أن يكون منتزعا من واقع الإتجاه التأليفي لذلك العلم , إذ بلحاظه يمكن تشخيص الأساس الفني لمسائل العلم و أخذه في التعريف ليكون التعريف جامعا لمسائل ذلك العلم بحسب الواقع و نفس الأمر , و مانعا من دخول غيرها مما لا يرتبط بالمحور الأصلي للعلم الثابت أيضا كحقيقة موضوعية في الواقع و نفس الأمر , حيث أن إدراك أي علم و تحصيله في مرحلة التكوين للعلم لا بد أن يكون قائما على أساس ما هو ثابت كحقيقة موضوعية في الواقع و نفس الأمر .
النقطة الرابعة :- دأب الأصوليون في بحوثهم و دراساتهم لعلم الأصول - كسائر أرباب العلوم و الفنون - على ذكر مقدمة قبل الدخول في تنقيح مسائل هذا العلم , يبحثون فيها عن صياغة تعريف يحد هذا العلم , و يعطي تصورا دقيقا عن طبيعة بحوثه و مسائله التي يتناولها الأصولي بالدرس و التحقيق .
و لم يكن المبرر للإلتزام بهذه الطريقة مبررا ذوقيا خالصا , أو مجرد عرض لغرض الإطلاع , بقدر ما يكون لهذه الطريقة مبررها الفني حيث يراد للتعريف أن لا يقتصر على بيان ما هو المبحوث عنه من قضايا , و إنما يتعدى ذلك الى إبراز الضابط الذي تقرر بناء عليه بحث هذه المسئلة أو تلك في هذا العلم أو ذاك , و التمييز بين ما يبحث في هذا العلم من مسائل تبعا لدخولها في وظيفته , و بين ما يبحث لغرض آخر من الأغراض . مضافا الى ما قد يطرأ على المنهج من تغيير بحكم تطور البحث و نموه فيقع الخلاف في صغرى دخول مسئلة ما في العلم مما له شواهد لا تخفى على المتتبع .
و هذا هو ما يفسر تحول البحث عن التعريف الفني لأي علم من العلوم غالبا من مجرد الإكتفاء بذكر التعريف و ضرب المثال , الى بحث مستكمل لشرائطه التحقيقية , على حد البحث في سائر مفردات العلم و تفاصيله .
و النتيجة الطبيعية لذلك أن تختلف التعاريف في صياغاتها و محتواها تبعا لاختلاف الأنظار , و لذا قلما يتفق المختصون على صياغة تعريفية واحدة , مضافا الى تغيّر ما قد يتفق عليه بعد مرور فترة من الزمن بحكم تطور العلم نفسه , و هذا ما وقع لتعريف علم أصول الفقه أيضا .
قوله :- إعلم أنك لا تفهم معنى ( أصول الفقه ) ما لم تعرف أولا معنى الفقه .
أقول :- هذا قول صحيح , لكنه ينبغي أن يقال للمبتديء , أو لمن لامعرفة له أصلا بالفقه و لا بأصوله , مع أن الكتاب لم يوضع للمبتديء , و قد ذكر المصنف رحمه الله تعالى في خطبة الكتاب أنه ألّف هذا الكتاب باقتراح من محصلي علم الفقه الذين راموا تصنيفا في أصول الفقه يجمع بين الترتيب و التحقيق . نعم , الذي ينبغي أن يقال هو إن علم أصول الفقه نشأ بحكم اقتضاء الإستدلال الفقهي لتنقيح القواعد العامة لهذا الإستدلال .
قوله :- و الفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع .
أقول :- يطلق لفظ الفقه في اللغة و يراد به العلم أو الفهم أو الفطنة , و لكل شواهد ذكرها ابن منظور في لسان العرب .
قوله :- و لكن صار بعرف العلماء .
أقول :- يعني أنه أخذ معنى إصطلاحيا , و عرف العلماء هو من العرف الخاص , فالفقه قد صار له معنى إصطلاحي في اصطلاح علماء الفقه , و فيما بين الإصطلاحات العلمية عموما , سواء على مستوى علوم الدين , أو على مستوى عامة العلوم . نعم , كان يطلق على العلم الديني بعامة أنحائه , و لذلك جذر في قوله تعالى : ( و ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ) . ثم صار اصطلاحا لخصوص قسم من العلم الديني و هو العلم بأحكام الشرع الفرعية .
قوله :- العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة .
أقول :- في هذا التعريف نقاط ينبغي الوقوف عندها .
أولا :- قد تقدم أن حقيقة كل علم ليست سوى القواعد و الكبريات الثابتة في نفس الأمر كحقيقة موضوعية بغض النظر عن إدراكها و تحصيلها , وهي تكون معروضة للعلم تارة و للجهل تارة أخرى , و أما وجودها التصوري أو التصديقي فهو متأخر عنها , و لا يعبر عن حقيقتها النفس أمرية ,. و هذه القواعد و الكبريات تمهَّد لكي تُعلم لمن يريد معرفتها .
و على أساس ذلك ربما يقال بأن أخذ قيد العلم في التعريف غير صحيح , لأن الوجود الإدراكي ليس هو حقيقة العلم , و أسامي العلوم و الفنون حاكيات عن القواعد المبحوث عنها في العلم بغض النظر عن مدركها و محصلها , و المؤلفون في العلوم إنما يرومون تعريف نفس ما يبحث عنه في العلم من قواعد .
و يلاحظ على هذا الكلام , أن حقيقة كل علم و إن كانت كما ذُكر , إلا أن لفظ العلم المضاف الى أي من العلوم ليس اسما جامدا لا معنى له إلا المعنى الثابت لأي عَلَم من الأعلام , إذ لم يأت في اللغة على هذا المعنى , و إنما يطلق بما له من المعنى الحدثي الدال على الفعل مجردا عن الزمن , فلا بد حينئذ أن يؤخذ قيد العلم في التعريف و يعدّى بالباء . فهناك فرق بين تعريف النحو مثلا و تعريف علم النحو , فالنحو هو نفس القواعد الممهَدة لضبط أواخر الكلم إعرابا و بناء , و أما إذا أضيف الى النحو لفظ العلم - بما له من معنى حدثي - لزم أن يؤخذ في التعريف قيد العلم و يعدّى بالباء , لأن المراد حينئذ هو بيان الوجود الإدراكي للقواعد باعتبار تعلق المعنى الحدثي بها . و من هنا يأخذ المؤلفون قيد العلم في التعريف على الرغم من أن حقيقة كل علم هي نفس قواعد ذلك العلم الثابتة في نفس الأمر , و ما ذاك إلا لأنهم يعرفون هذه القواعد على مستوى تعلق المعنى الحدثي بها المساوق لوجودها الخارجي الذي عليه مدار الإشتغال .
ثانيا :- أخذ قيد ( خاصة ) إن رجع الى الأفعال فهو , و أما إن رجع الى المكلفين فقد أخلّ بجامعية التعريف , لأن في مسائل الفقه عباداته و معاملاته ما يتناول غير المكلفين , و هذا واضح لمن له معرفة بالفقه .
ثالثا :- بيان تعلق مسائل الفقه بالأفعال هو لإخراج مسائل الإعتقاد و مسائل علم الأخلاق و التصوف . لكن المقصود من الحكم الشرعي إن كان هو مضمون الخطاب الشرعي من تشريع تكليفي أو وضعي - و هو المراد - كان ذلك كفيلا بإخراج تلكم المسائل , لأن المبحوث فيها ليس هو الحكم الشرعي بهذا المعنى . و إلا فمسائل الإعتقاد و الأخلاق و التصوف لها تعلق بأفعال الناس على حد تعلق الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بأفعالهم , و إنما التفاوت هو في أنحاء التعلق , لكنه لا يجعل قيد التعلق بالفعل مائزا لكي يتم إخراج تلكم المسائل بهذا القيد . فمسئلة ( الصدق فضيلة ) مثلا في علم الأخلاق , موضوعها فعل الإنسان , و محمولها قيمة أخلاقية تتجلى في فعل الإنسان و تثبت له , كما أن مسئلة ( شرب الخمر حرام ) موضوعها فعل الإنسان , و محمولها توجيه شرعي متعلق بفعل الإنسان و ثابت له . و مسئلة ثبوت وحدانية الله عزّ و جلّ إنما تبحث لأنها تتعلق باعتقاد الإنسان , و الإعتقاد فعل من أفعال العقل . و أما وجوب الصدق مثلا فهو مسئلة فقهية بلا ريب لأن محمولها تشريع تكليفي , فتكون من هذه الجهة داخلة في علم الفقه , و إن كانت من جهة كون الصدق فضيلة داخلة في علم الأخلاق .
قوله :- حتى لا يطلق بحكم العادة اسم الفقيه .
أقول :- التعبير بالعادة غير دقيق , لأن عدم إطلاق اسم الفقيه هو بحكم ما أخذه الفقه من معنى اصطلاحي , و ما صار له في العرف الخاص من اصطلاح علمي , فكان اللازم أن يقول بحكم الإصطلاح .
قوله :- و فاسدا و باطلا .
أقول :- العطف هنا للتغاير . و قد اتفقوا على عدم الفرق في العبادات بين الفساد و البطلان , و أما في المعاملات فالجمهور على عدم الفرق فالفساد و البطلان بمعنى واحد حيث يقع الفعل مخالفا لما طلبه الشرع و لا يترتب عليه الأثر شرعا . إلا أن الحنفية فرقوا بين الفساد و البطلان , فالباطل ما لم يشرّع بأصله و لا بوصفه كبيع الميتة , بينما الفاسد ما شرّع بأصله دون وصفه كالبيع بثمن مجهول فالبيع بذاته حلال و لكن أفسده جهالة الثمن . و حكي أن أصحاب أحمد و الشافعي فرقوا بين الفاسد و الباطل في مسائل كثيرة . و لسنا هنا بصدد تحقيق ذلك و إنما أردنا توضيح السبب في عطف البطلان على الفساد هنا .
قوله :- و العارف بذلك يسمى متكلما .
أقول :- بل يسمى فيلسوفا , لأن البحث عن الجوهر و العرض و الحركة و السكون داخل في الفلسفة , و أما علم الكلام فهو يبحث عن العقائد الدينية بخاصة و إن استخدم الدليل الفلسفي , إلا أن الجوهر و العرض و ما شاكل ليست من مسائله و مباحثه كما لا يخفى , و إنما هي من مسائل علم الفلسفة الذي يبحث عن الوجود .
قوله :- و أما أحكامها من حبث إنها واجبة الخ
أقول :- و من حيث إنها صحيحة أو باطلة , فالأحكام فيها ما هو تكليفي , و فيها ما هو وضعي , و كان على المصنف رحمه الله تعالى أن لا يهمل الإشارة الى الوضعي .
قوله :- فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام الخ .
اقول :- الأصل في اللغة هو ما يرتكز عليه الشيء و يبنى . و أصول الفقه هي أدلة الفقه و قواعد الإستدلال الفقهي , فهي التي يبنى عليها الإستدلال على الأحكام الشرعية .
و أما التعريف الذي أفاده المصنف رحمه الله تعالى - و لم يتفرد به , و إنما سبقه اليه غيره - ففيه بعض الملاحظات :-
منها :- أنه أخذ في التعريف أدلة الأحكام , و قد أراد بها الكتاب و السنة و الإجماع كما صرح بذلك هنا عند قوله ( وقد عرفت من هذا أن أدلة الأحكام : الكتاب و السنة و الإجماع ) .
و وجه الإشكال هو أن الكتاب و السنة ليسا من أصول الفقه بالمعنى المبحوث عنه في هذا العلم , و إنما هما مصدران رئيسان للأحكام الشرعية , و علم أصول الفقه إنما يتناول بالبحث كيفية الإستدلال على الأحكام الشرعية من مصدريها الرئيسين , فهو علم يتكفل بتنقيح القواعد التي يقتنص بها الحكم الشرعي من الكتاب و السنة .
و ربما جاء أخذ الكتاب و السنة في التعريف انسياقا مع ما تردد في كلمات الأصوليين من أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة , أو أدلة الأحكام بهذا المعنى , مع أن الكتاب و السنة ليسا هما موضوع علم الأصول , فهما مأخذان للأحكام الشرعية , و علم أصول الفقه إنما يبحث عن القواعد و المسائل التي بها يتمكن المجتهد من استنباط الأحكام الشرعية من مأخذها , فطبيعة البحث في أصول الفقه هي تنقيح قواعد الإستدلال بالكتاب و السنة , و ليس البحث عن الكتاب و السنة في حد نفسيهما , فلا يصح جعلهما موضوعا لأصول الفقه , و لا أخذهما في تعريفه , و ما هو موضوع علم أصول الفقه في الحقيقة ليس إلا الطريقة العامة للإستدلال الفقهي . مضافا الى أن جعل الأدلة الأربعة موضوع علم أصول الفقه يوجب خروج كثير من مسائل هذا العلم , لأن الأدلة الأربعة إما أن تكون موضوع علم الأصول بما هي أدلة , أو بما هي هي و مع قطع النظر عن دليليتها . و على الأول ستخرج كثير من المسائل التي تتناول أصل الدليلية كحجية الإجماع المنقول و حجية الخبر و ما شاكل , لأن البحث فيها إنما هو عن أصل دليليتها , و ليس عما يعرض على الدليل بعد ثبوت دليليته . و على الثاني ستخرج أيضا مسائل أصولية عديدة , لأن البحث عنها ليس من عوارض الأدلة الأربعة , فالبحث عن حجية الخبر ليس من عوارض السنة كدليل , و إنما هو من عوارض الخبر نفسه , و الخبر طريق الى السنة و ليس هو السنة .
و قد قال المصنف رحمه الله تعالى : ( و قد عرفت من هذا أن أدلة الأحكام : الكتاب و السنة و الإجماع , فالعلم بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة , و شروط صحتها , و وجوه دلالتها على الأحكام , هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه ) . فتجده هنا في هذه العبارة بعد أن يذكر أن الكتاب و السنة و الإجماع هي أدلة الأحكام , يفرِّع على ذلك أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يبحث عن طرق ثبوت تلكم الأدلة , و شروط صحتها , و وجوه دلالتها على الأحكام , فميَّز بين أدلة الأحكام , و كيفية الإستدلال بها على الأحكام , و اعتبر ما يتعلق بكيفية الإستدلال على الأحكام هو عبارة عن علم أصول الفقه . و هذا هو الصحيح , و هو يختلف عن قوله عند بيان التعريف : ( فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة الأحكام و عن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام في الجملة ) , فلم يميِّز في هذه العبارة بين أدلة الأحكام , و كيفية الإستدلال بها على الأحكام , فأدخل الجميع في علم أصول الفقه , و هو غير صحيح كما عرفت .
و منها :- إن هذا التعريف الذي أفاده المصنف رحمه الله تعالى , و إن كان منتزعا من واقع الإتجاه التأليفي لعلم أصول الفقه , حيث أن معرفة الحكم الشرعي تحتاج الى معرفة الطريقة العامة للإستنباط , و بالتالي معرفة قواعد الإستدلال الفقهي التي بها يتمكن الفقيه من تعيين الحكم الشرعي , و هذا هو الأساس في نشأة علم أصول الفقه , إلا أن هذا التعريف لم يُصَغ بالصياغة الفنية التي تعبر بوضوح و دقة عن ضابطة المسألة الأصولية , و ما يميزها عن سائر المسائل التي تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية , دون أن تدخل في علم أصول الفقه , و إنما هي من مسائل علوم أخرى كعلم اللغة أو علم الدراية أو علم الرجال و غير ذلك من العلوم . و كذلك ما يميز المسألة الأصولية عن القاعدة الفقهية التي ربما يستدل بها أيضا على حكم شرعي جزئي أو كلي . أضف الى ذلك أن المترائى من تعريف المصنف رحمه الله تعالى انحصار مسائل علم أصول الفقه بما يتعلق بمعرفة وجوه دلالة أدلة الأحكام الشرعية و هي الكتاب و السنة و الإجماع , و كيفية الإستدلال بها , مع أن في صلب أصول الفقه من المسائل ما لا يتعلق بذلك نظير مباحث : العرف , و شرع من قبلنا , و فتح الذرائع و سدها , و مذهب الصحابي , و الإستصحاب , و الإباحة الشرعية التي تثبت عند عدم الظفر بدليل على الوجوب أو الحرمة , فتقضي بالإباحة و براءة الذمة عن الترك إذا كان مخالفا للحكم الثابت للفعل في الواقع و الذي لم يتمكن المجتهد من الوصول اليه لعدم ظفره بدليل عليه , فهذه المباحث من مسائل علم أصول الفقه و يخلّ بالتعريف عدم تناوله لها .
و من هنا تبرز الحاجة الى تعريف آخر يفي بمتطلبات التعريف الفني لعلم أصول الفقه , و يتخلص من الملاحظات المتوجهة على التعريف الذي أفاده المصنف رحمه الله تعالى .
و الصحيح أن يعرَّف علم أصول الفقه بمضمون يلتزم مضمون التعريف التالي :- علم أصول الفقه هو العلم الباحث عن القواعد العامة للإستدلال الفقهي الأعم مما يستنبط منه الحكم الشرعي بذاته أو بنحو تعلقه بموضوعه , و ما يحدد الوظيفة العملية عند فقد الدليل .
و هذا التعريف مضافا الى أنه يعبِّر بدقة عن واقع الإتجاه التأليفي لعلم أصول الفقه و الذي تقدَّم بيانه مرارا , فإنه تعريف جامع مانع , و يبرز معيار المسألة الأصولية , و يميزها عن القواعد الفقهية التي ربما يستدل بها في الفقه , و عن سائر المسائل الأخرى التي تقع في طريق الإستدلال الفقهي لكنها لا تدخل في علم أصول الفقه , و إنما تتناولها علوم أخرى .
أما المائز بين القاعدة الفقهية و المسألة الأصولية , فيكمن في أن الإستدلال بالقاعدة الفقهية ليس استدلالا إستنباطيا , و إنما هو استدلال تطبيقي , فالقاعدة الفقهية لا يستنبط منها الحكم الشرعي , و إنما يكون الحكم الشرعي أحد تطبيقاتها . فالفارق بين الإستدلال الإستنباطي و الإستدلال التطبيقي يكمن في أن الإستدلال الإستنباطي هو استدلال توسيطي تكون النتيجة فيه مغايرة مع كبرى الإستدلال نظير الإستدلال على وجوب الصلاة مثلا بقوله تعالى : ( أقيموا الصلاة ) حيث ورد فيه الأمر بالصلاة , و الأمر يدل على الوجوب , فالصلاة واجبة . فالنتيجة هنا و هي ( الصلاة واجبة ) ليست عين الكبرى ( الأمر يدل على الوجوب ) , و إنما هي معطى آخر مغير للكبرى , و تم الحصول على النتيجة بتوسيط الكبرى , فهذا استدلال توسيطي استنباطي , بينما الإستدلال بالقاعدة الفقهية هو استدلال تطبيقي تكون فيه النتيجة حصة من حصص الكبرى كالإستدلال بقاعدة ( ما حرم أخذه حرم إعطاؤه ) على حرمة إعطاء الرشوة , فإن النتيجة ليست مغايرة للكبرى , بل هي فرد منها , و إنما تم تطبيق الكبرى عليها . و كذلك الحال في الإستدلال بقاعدة ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) على وجوب أداء الصلاة قاعدا إذا تعسر القيام , فالنتيجة و هي عدم سقوط الصلاة بتعذر القيام هي مصداق من مصاديق كبرى لا يسقط الميسور بالمعسور تم تطبيق الكبرى عليها .
و أما المائز بين المسألة الأصولية و غيرها مما يقع في طريق الإستدلال الفقهي فيكمن في أن المسألة الأصولية لا تخلو عن أمرين : فإما أن يستنبط منها الحكم الشرعي , و إما أن تحدد بها الوظيفة العملية عند عدم الوصول الى الحكم الشرعي الثابت للفعل في الشرع . فتخرج مسائل علم الرجال لأنها ليست دليلا على الحكم الشرعي و إن وقعت في طريق الإستدلال عليه , و إنما هي تشخِّص موضوع الدليل , فخبر الواحد الثقة هو الدليل , و وثاقة الراوي موضوع هذا الدليل , فما يبين وثاقة الراوي , إنما يشخِّص موضوع الدليل , و ليس هو الدليل على الحكم . و مسائل علم الدراية هي مباديء تصديقية لعلم الرجال , فهي إذن أدلة على موضوع الدليل على الحكم الشرعي , و ليست هي في نفسها دليلا على الحكم الشرعي . و أما مسائل اللغة , فما كان منها دليلا على الحكم الشرعي دخل في أصول الفقه , كمسئلة دلالة صيغة إفعل على الوجوب , و ما لا يكون في نفسه دليلا على الحكم الشرعي خرج من مسائل أصول الفقه , كدلالة لفظ الصعيد على التراب الخالص , فإنها ليست في نفسها دليلا على الحكم الشرعي , و إنما تقوم بتحديد لمتعلَّق متعلَّق الحكم الشرعي , فالأمر تعلَّق بالتيمم و التيمم تعلّق بالصعيد , و المسألة اللغوية تحدد هذا المتعلَّق , فهي تقع في طريق الإستدلال الفقهي , لكنها ليست دليلا على الحكم الشرعي , و علم أصول الفقه إنما يتناول بالبحث ما يكون دليلا على الحكم الشرعي . و هكذا يقع التمييز بين المسألة الأصولية و غيرها من المسائل التي يحتاجها الفقيه في عملية الإستنباط .
قوله :- من حيث الجملة لا من حيث التفصيل .
أقول :- لأن علم أصول الفقه لا يتناول كيفية الإستدلال على مسألة فقهية بعينها , و إنما يتناول الطريقة العامة في الإستدلال الفقهي بغض النظر عن أشخاص المسائل , و بالتالي فهو يبحث عن قواعد الإستدلال الفقهي على نحو العموم بحيث تكون هذه القواعد بيد المجتهد يُعملها في محالِّها أينما كانت في أبواب الفقه .
قوله :- فإن علم الخلاف من الفقه .
أقول :- بل علم الفقه نفسه إذا طُلبت فيه المسألة من أدلتها التفصيلية , فهو أيضا مشتمل على أدلة الأحكام و وجوه دلالتها , ولكن من حيث التفصيل , أي بلحاظ مفردات علم الفقه من المسائل التي يستدل المجتهد على كلٍّ منها . هذا
و المقصود بعلم الخلاف هو العلم الذي يُعنى بجمع الآراء الفقهية و الموازنة بينها و تقييمها و ترجيح بعضها على بعض . و من هنا عُرِّف بأنه علم يُقتَدَر به على حفظ الأحكام الشرعية الفرعية أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية و قوادح الأدلة .
و يلتقي علم الخلاف مع الفقه المقارن إذا لم يكن الفقه المقارن بمستوى مجرد عرض الآراء المختلفة في المسائل الفقهية دون تقييمها من حيث أدلتها , في أن علم الفقه المقارن بمستواه التقييمي هو مثل علم الخلاف في عرض الآراء الفقهية و تقييمها من حيث أدلتها . نعم يمتاز علم الفقه المقارن في أن الباحث فيه يقف على الحياد في البداية ثُم ينتهي الى ما ينتهي اليه به الدليل , بينما غرض الباحث في علم الخلاف تأييد قول على غيره بصورة مسبقة .
قوله :- على طريق ضرب المثال .
أقول :- كشاهد على إعمال القاعدة الأصولية .
قوله :- من حيث صيغتها .
أقول :- أي مدلولها المطابقي وهو المنطوق , سواء أكان أفراديا أو تركيبيا , شبه جملة أو جملة تامة .
قوله :- أو مفهوم لفظها .
أقول :- أي مفهوم الخطاب , و هو معنى خارج عن مدلول اللفظ لازم له لزوما بيِّنا بالمعنى الأخص , فهو إذن لا يستفاد من صيغة اللفظ , لأنه ليس مدلولا مطابقيا لها . و ينقسم المفهوم الى مفهوم موافقة , فيما إذا كان الحكم المستفاد من الخطاب بالدلالة الإلتزامية موافقا و مماثلا للحكم المذكور في منطوق الخطاب , كما في دلالة قوله تعالى : ( و لا تقل لهما أف ) على حرمة ماهو أشد من التأفف . و مفهوم مخالفة , فيما إذا كان الحكم المستفاد من الخطاب بالدلالة الإلتزامية مخالفا للحكم المذكور في منطوق الخطاب , كما في دلالة خطاب ( في الغنم السائمة زكاة ) على عدم وجوب الزكاة في الغنم غير السائمة على القول بثبوت مفهوم الوصف .
قوله :- أو فحوى لفظها .
أقول :- كلام المصنف رحمه الله تعالى مشوش , فهو هنا يميز بين مفهوم اللفظ و فحوى اللفظ , و في بيان كيفية دوران علم أصول الفقه على الأقطاب الأربعة , يذكر الفحوى و المفهوم كشيء واحد , في مقابل دلالة الإقتضاء , و في الفن الثاني يقول : في ما يقتبس من الألفاظ لا من حيث صيغتها بل من حيث فحواها و إشاراتها , و يجعلها على خمسة أضرب هي : الإقتضاء , و الإشارة , و الإيماء , و مفهوم الموافقة , و مفهوم المخالفة . فلم يستقر على اصطلاح محدَّد .
قوله :- و معقول لفظها , و هو القياس .
أقول :- القياس أعم , لأنه ربما لايكون معقول خطاب لفظي كما سيتضح عند البحث عن القياس .

السابق || البداية || التالي

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com