الرئيسية شذرات الفتاوى الأسئلة والاستفتاءات المقالات الأبحاث والدراسات المحاضرات البيانات مشروع الميثاق الوطني اللقاءات الإعلامية السيرة الذاتية الصور
 

الأبحاث والدراسات

محاضرات الإمام المؤيد في أصول الفقه تعليقا على كتاب المستصفى للإمام الغزالي

خطبة الكتاب
درج المدرسون عادة على البدء من صدر الكتاب و أول مطالبه حيث بيان التعريف و الموضوع و التقسيم , تاركين خطبة الكتاب . و لكننا وجدنا في خطبة الكتاب ما يستدعي بيان تنبيهات مهمة ترتبط بما ذكره المصنّف رحمه الله تعالى في خطبة الكتاب , لذا سنقوم بالتعليق على ما يستدعي التنبيه عليه .
قوله :- الطاعة طاعتان : عمل و علم . و العلم أنجحها و أربحها , فإنه أيضا من العمل .
أقول :- العلم إما أن يتعلّق به الوجوب مباشرة , أو يجب وجوبا مقدميا لكونه مقدمة لواجب . و في كلتا الحالتين يعدّ الإشتغال فيه طاعة لأنه امتثال للواجب . فالإجتهاد واجب كفائي , و هو موقوف على معرفة علوم عديدة لا يتحقق الإجتهاد إلا بمعرفتها و العلم بها , فيجب الإشتغال بذلك . و العلم بالأحكام الشرعية الفرعية التي تقع محلا للإبتلاء واجب , فيجب تعلمها . و هكذا يكون الإشتغال بالعلم طاعة لأنه امتثال للواجب . و هذا الإشتغال عمل أيضا .
و أما الحكم على العلم بأنه أنجح الطاعات و أربحها حكما مطلقا , فهو محل للمناقشة , لأن العلم المجرد عن طاعة العمل لا نجح فيه , بل ربما يكون وبالا على صاحبه , و تكون الحجة عليه أتم في ترك العمل . كما أن العلم إذا كان مقدمة للعمل فإنه طريق للتوصل الى العمل , و ذو المقدمة أهم من المقدمة , لأن إرادته نفسية و إرادتها غيرية .
و الميزان هو اقتران العلم بالعمل , و قد ورد في الأثر النعي على الجاهل المتنسك و العالم المتهتك .
قوله :- و لكنه عمل القلب الذي هو أعزّ الأعضاء , و سعي العقل الذي هو أشرف الأشياء .
أقول :- ميّز هنا بين القلب و العقل , مع أن العلم هو عمل العقل , و القلب لا يأتي هنا إلا بمعنى العقل . فالقلب يطلق و يراد به العقل تارة , كما في قوله تعالى : ( و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون ) , و قوله تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب و ألقى السمع و هو شهيد ) . و تارة يطلق القلب و يراد به الشعور و الوجدان الداخلي , كما في قوله تعالى : ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ) , و قوله تعالى : ( إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ) . و أخرى يطلق و يراد به النفس , كما في قوله تعالى : ( يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) .
و ما هو محل الإدراك هو العقل , فلا يصح التمايز هنا بين القلب و العقل حقيقة , لأنهما بمعنى واحد .
قوله :- و حامل الأمانة المعروضة على الأرض و الجبال و السماء فأشفقن منها و أبين أن يحملنها غاية الإباء .
أقول :- الأقوال في عرض الأمانة على السموات و الأرض و الجبال كثيرة , و قد اضطربت كلمات المفسرين في هذا الموضوع الأمر الذي يكشف عن عمق المعنى المفاد في الآية الكريمة . و هناك من الأقوال ما لايستحق أن يتوقف عنده أو يصغى إليه لوضوح ضعفه و مجافاته لمفاد الآية , و لكن ما يستحق أن يذكر و يناقش من تلكم الأقوال ثلاثة :-
الأول :- إن إسناد عرض الأمانة - وهي الفرائض التي ائتمن الله تعالى العباد عليها و جميع وظائف الدين - الى السموات و الأرض و الجبال هو إسناد مجازي من المجاز في الإسناد , نحو ( و اسئل القرية ) بمعنى إسأل أهل القرية . فالمراد هو عرض الأمانة على أهل السموات و الأرض و الجبال , و هم الملائكة و الجن .
و يرده : - مضافا الى أنه لا وجه لذكر الجبال إذا أريد بأهل الأرض الجن , فالجبال جزء من الأرض , و إن كان المراد بها جبالا في كواكب أخرى فسكانها إما ملائكة أو جن , فلا معنى لذكر الجبال مستقلة عن الأرض و السماء ,فإن الجن مكلفون بالوظائف الدينية و لم يكن لهم أن يأبوا و يرفضوا , و الملائكة عليهم من الوظائف ما هو أثقل مما على الإنسان .
الثاني :- إن الإسناد هنا هو من باب التمثيل , فهو إسناد افتراضي , بمعنى أن التكليف لو عرض على السموات و الأرض و الجبال لعجزن عن حمله .
و يرده :- أن لسان الآية الكريمة ليس لسان التمثيل و الإفتراض , و إنما هو لسان تقرير الواقع و الإخبار عنه و بيان أمر متحقق . و لو كان الإسناد هنا افتراضيا لجائت الآية على نحو قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الأمثال نضربها للناس ) , فكان التعبير المناسب هو : لو عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال لأشفقن منها و أبين أن يحملنها .
الثالث :- إن عرض الأمانة هنا هو عرض حقيقي لكن بما يتناسب و المعروض عليه , و قد كشف لنا القرآن عن تسبيح الجمادات لله عزّ و جلّ , قال تعالى : ( تسبح له السموات السبع و الأرض و من فيهن و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم ) . فإذا أمكننا عقلا تعقل و تصور تسبيح الجمادات لله تعالى , أمكننا تعقل عرض الأمانة عليها بما يتناسب معها كجمادات .
و يرده :- إن المستفاد من الآية الكريمة هو أن الأمانة التي حملها الإنسان هي نفسها التي عرضت على السموات و الأرض و الجبال , إذن هي ليست شيئا يمكن عرضه عرض خطاب , فلا تقاس بالتسبيح , بل لا أهلية للجمادات لهذا العرض , سواء أكانت الأمانة عبارة عن وظائف الدين أو خلافة الله تعالى .
و الذي يقرب الى الذهن هو أن العرض عرض حقيقي لأن الآية تتحدث عن تقرير حقيقة واقعة و ليس عن افتراض و تمثيل , لكنه ليس عرض خطاب لعدم أهلية الجمادات للخطاب و لتحمل الأمانة , و إنما هو عرض موازنة و مقايسة لكن في عالم هو نظير عالم الإعتبار الذهني , لكن بما يتناسب و المطلق جلّ و علا . فهو عرض موازنة و مقايسة في عالم هو من سنخ عالم الإعتبارات الذهنية , فكان ثقل الأمانة التي حملها الإنسان مما تعجز عنه السموات و الأرض و الجبال . هذا
و الآية لم تتحدث عن عرض الأمانة على الإنسان , و إنما قالت : ( و حملها الإنسان ) , و المستفاد منها هو تكليف الإنسان بهذه الأمانة , فهو ملزم بها من الله تعالى , و تكليفه بها و إن كان تكليف تشريف إلا أنه لا خيار له فيه , و إنما هو مخيّر في مقام الإمتثال بين الطاعة و المعصية , و أما في حمل الأمانة سواء أكانت خلافة الله تعالى التي قال عنها الله عز و جل : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) , أو توجه التكليف إليه , فلا خيار له فيه و إنما تعلقت إرادة الله تعالى بحمل الإنسان للأمانة . و جاء وصف الإنسان بالظلوم لتفريطه في حمل الأمانة إن عصى الله تعالى و خرج عن مسار خلافته أو العبودية له سبحانه , كما جاء وصف الجهول لجهله بقيمة هذه الأمانة و عظمتها .
قوله :- ثم العلوم ثلاثة : عقلي محض لا يحث الشرع عليه و لا يندب إليه كالحساب و الهندسة .
أقول :- هذا الكلام محل مناقشة , لأن الشرع يحث على ما تقوم به معائش العباد , و في الفقه هناك واجبات تسمى بالواجبات النظامية , و هي التي يقوم بها نظام حياة الناس , و بالتالي تكون العلوم التي يتوقف عليها نظام حياة الناس واجبة كعلم الطب و الحساب و الهندسة و غير ذلك . و لم يهمل الشارع مقتضيات المعاش , و قد قال تعالى : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك من الدنيا ) .
قوله :- فهي بين ظنون كاذبة لا ثقة بها و ( إن بعض الظن إثم ) , و بين علوم صادقة لا منفعة لها و نعوذ بالله من علم لا ينفع . و ليست المنفعة هي الشهوات الحاضرة و النعم الفاخرة فإنها فانية داثرة , بل النفع ثواب الآخرة .
أقول :- قد عرفت أن ما تقوم به معائش الناس و نظام حياتهم قد حث الشرع عليه بل أوجبه , فالعلوم العقلية التي تتصل بذلك مندوبة بل واجبة و إن كانت ظنية , و الإستشهاد بالآية هنا في غير محله , كما إن العلم العقلي الصادق المرتبط بمعائش العباد و ما يقوم به نظام حياتهم هو علم نافع بلا ريب , و الدنيا و إن كانت فانية , لكن الشرع جاء لتنظيم حياة الناس فيها و تقنين معائشهم , و قد قال تعالى : ( و لا تنس نصيبك من الدنيا ) .
قوله :- و نقلي محض كالأحاديث و التفاسير , و الخطب في أمثالها يسير , إذ يستوي في الإستقلال بها الصغير و الكبير , لأن قوة الحفظ كافية في النقل , فليس فيه مجال للعقل .
أقول :- قد أخطأ المصنف رحمه الله تعالى خطأ لا يعذر فيه , لأن أساس تقسيم العلوم الى عقلية و نقلية إنما هو من حيث مادة العلم و مصدره , فإن كان النقل مادة و مصدرا للعلم سمّي نقليا , مع وضوح احتياجه الى العقل الذي له فيه مجال . و من هنا كانت كل العلوم النقلية بحاجة الى العقل إدراكا و تحليلا , و للعقل فيها مجال , فهي أيضا مما ازدوج فيه العقل و السمع , و اصطحب فيه الرأي و الشرع . و ليس معنى العلم النقلي أن مسائله مما لا شأن فيه لغير الحفظ و النقل . و العجيب من المصنف أنه ضرب التفسير مثالا , مع وضوح أن مجال العقل في التفسير واضح في معرفة الدلالة و إدراك المعنى و الربط بين الآيات و ما شاكل , بل الأمر كذلك في الأحاديث , و من ثم قامت علوم الحديث , و هي من قسم العلوم النقلية باعتبار كون مادتها و مصدرها النقل .
بهذا ينتهي تعليقنا على خطبة الكتاب , و ننتقل الى التعليق على صدر الكتاب , و بالله التوفيق .
 

السابق || البداية || التالي

Twitter Facebook قناة الشيخ حسين المؤيد في اليوتيوب google + البريد الالكتروني
[email protected]

جميع الحقوق © محفوظة للمنتدى العلمي
مكتب سماحة الإمام الشيخ حسين المؤيد

www.almoaiyad.com